ليس للدروز، وهم الفرقة التأسيسية لتاريخ التشكّل الذاتي للكيانية الجبلية اللبنانية، قبل أن يهيمن عليها الموارنة نتيجة اتصال هؤلاء المبكر والحثيث بأسباب التحديث الأوروبي، وتفوّقهم العددي والزراعي، وامتلاكهم لتنظيم كنسي هرمي مركزي، فضلاعن تموْرن عدد وافر من العائلات الدرزية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ـ أي، للمفارقة، في زمنٍ شهد تصاعد الاحتقان ثم التناحر بين الملتين ـ ليس للدروز، رغم كل ذلك، ورغم كونهم طائفةً تأسيسية في لبنان، عيدٌ أو يوم عطلة خاص بهم، دينيًا أو ثقافيًا، يميّزهم عن سائر الطوائف. إذ يعتبرون أن عيدهم الكبير هو عيد الأضحى، كسائر المسلمين. ولا يذكر كاتب هذه السطور أن دروز لبنان طالبوا، يومًا، بإدراج مناسبة تميّزهم في الروزنامة الحافلة بالأعياد والعطل، والمكرّسة لتعدّدية الطوائف اللبنانية ـ مع أنّ للتديّن الدرزي في لبنان جغرافيا من المقامات والزيارات.
وكما في لبنان، كذلك في سوريا، ليس للدروز في الروزنامة الرسمية سوى عيد الأضحى. فقد ارتبط تشكّل هوية جبل الدروز في جنوب ما يُعرف اليوم بـ«سوريا» بهجرة «المغلوبين» منهم بعد معركة عين دارا عام 1711 بين القيسية واليمنية في جبل لبنان، الذي كان يُعرف ـ وخصوصًا في قسمه الجنوبي ـ بجبل الدروز حتى ذلك الحين.
استأثرت القيسية بلبنان، وأُجلِيَت اليمنية إلى السويداء. وقد حافظ الانفصال الجغرافي بين الوجود الدرزي في ما بات يُعرف بجبل الدروز «السوري» (وامتداده الأردني) من جهة، وبين دروز الجولان ووادي التيم والشوف، بمعناه الأوسع، من جهة ثانية، على روابط المصاهرة والانتماء المشترك بين أبناء الملة، رغم الانشطار التهجيري الذي مارسه جزء من الطائفة على جزء آخر منها.
في إسرائيل، حدث ما لم يحدث لا لدروز لبنان ولا لدروز سوريا: صار لهم يوم عطلة ديني خاص، إلى جانب عيد الأضحى، هو عيد زيارة مقام النبي شعيب في أواخر شهر أبريل من كل عام. وغالبًا ما يُغفل هذا «التفصيل» وسط التركيز على عملية «أسرلة» الطائفة، من خلال شمول أبنائها بالتجنيد الإجباري، أسوةً بالشركس و«طائفة البدو» كما تسمّيها الدولة العبرية. غير أنّ تكريس «عيد الزيارة» في إسرائيل ليس تفصيلاً بسيطًا، ولا يمكن اختزاله بتفسير واحد جاهز. بطبيعة الحال، للمؤسسة الحاكمة مصلحة في «أثننة» الدروز، أي تحويلهم إلى مجموعة إثنية قائمة بذاتها، منفصلة عن عموم «عرب الـ48». أولابفعل خدمتهم العسكرية، وثانيًا لما يتيحه ذلك من إمكانية الإمساك بـ«المسألة الدرزية» العابرة للحدود في المشرق.
لكن خيار «الأثننة» الكاملة لدروز إسرائيل لا ينبع من فراغ. فهو يوظّف خصوصية إثنو-دينية قائمة فعلًا، ويقدّم لها عرضًا يعزّز حضورها الرمزي، بالقدر الذي قد يمنح طائفة باطنية شيئًا من الطمأنينة. إذ إنّ الدروز في العهد العثماني لم يُعترف بهم كملة مستقلة، وبعد حملات عاتية شُنّت ضدهم، أُبرم معهم تفاهمٌ ضمني يقضي بحقن دمائهم شريطة تظاهرهم بالانتماء إلى الإسلام السني الرسمي. فالإمبراطورية العثمانية لم تكن تقرّ بالاختلاف الديني إلا لليهود والمسيحيين، لكنها، في المقابل، لم تنظم «محاكم تفتيش» منهجية، وكان التظاهر بالإسلام السني كافيًا لبقاء سائر الفرق والجماعات ـ غير اليهود والنصارى ـ خارج دائرة الاضطهاد المنظّم. وهذا كان حال الدروز. وحدها إسرائيل سمحت للدروز بفتح ثغرة في هذا الترتيب العثماني المديد، حين شجّعتهم على اعتماد «عيد الزيارة» كمناسبة احتفالية خاصة بملّتهم.
ما الذي يستفاد من ذلك؟ أن إسرائيل وظّفت الاختلاف الإثني للدروز بأن «استكملته»، سيّجته، بحيث يبدو الدروز كأمّة صغيرة داخل إسرائيل وخارجها في آن معًا؛ تُعطي إسرائيل حافزًا إضافيًا لئلا تكون لها حدود ثابتة في الشمال والشمال الشرقي، من دون أن يعني ذلك التفكير في تحويل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية من أي نوع، كأن تكون دولة لليهود والدروز مثلًا. من هنا، نلحظ في السنوات الأخيرة تذمّر الشريحة الأكثر «تأسرلًا» من الدروز من تبعات إعلان إسرائيل «دولة يهودية».
ويُطرح السؤال: إذا كان إعلان إسرائيل دولة ثنائية القومية لليهود والعرب ـ علمًا أن أقل بقليل من نصف يهودها قدموا من بلدان عربية، ولهم «وجه عربي» بمعنى ما ـ قد يُثير «هاجسًا ديموغرافيًا» على اعتبار أن عرب 48 هم امتداد لفلسطينيي 67، فما الضير في أن تكون إسرائيل دولة ثنائية القومية بين اليهود والدروز، لا سيما وأن هذه الدولة قد بادرت إلى تحويل الدروز فيها إلى «قومية»؟ فلا يفترض أن هناك هاجسًا ديموغرافيًا في هذا السياق. لكن الأيديولوجيا التي تأسست عليها إسرائيل، وراحت تضاعف من طابعها الاستعماري والاستشراقي بدل أن تنساب إليها بعض الليونة، تجعل من المتعذر عليها مجرد التفكير في ذلك.
ومع ذلك، فإن هذا كله لا يُلغي أنه، في حين نجحت إسرائيل في توظيف اختلاف إثنو-ديني قائم لدى الجماعة، اكتفى لبنان بذهنية توزيع الحصص بين الطوائف، من دون استفهام جدي داخلي لطبيعة الاختلاف الثقافي بينها، ولا لتفاوته من حالة إلى أخرى. بل إن الأثر العثماني ـ القائم على استبعاد أي خصوصية رمزية رسمية للدروز ـ قد تعايش في لبنان مع النسق التوزيعي للمناصب والحصص والألقاب بين الطوائف.
أما سوريا، فقامت على أساس المكابرة التامة حيال فكرة الاختلاف الثقافي بين الجماعات، ولم يقتصر الأمر على الدروز دون سواهم. ففي بلدان أخرى، تُطعن حقوق الجماعات باسم حقوق الأفراد؛ أما في سوريا، فقد تطورت الحال ـ حتى قبل أن يهيمن البعثيون ثم الإسلاميون وبشكل لم ينفك يتفاقم ـ إلى وضع تُطعن فيه حقوق الجماعات والأفراد معًا.
التوظيف الإسرائيلي للاختلاف الإثني سيُقدّم لاحقًا الحجة لتحريم الاعتراف به بالكامل بذريعة «القومية العربية» و«الوطنية السورية» على حد سواء؛ وحتى بعد أن جرى تكريس التمييز الديني بين الناس لصالح دين الأكثرية أكثر فأكثر، فقد ظل التمسك بتحريم الاختلاف الثقافي من موقع أيديولوجيات الاندماج «الانصهاري» مع تحريمه من موقع أيديولوجية التمييز بين دائرتي الحق والباطل. وهذه صيغة تفخيخية بامتياز لسوريا اليوم.
ثم أن التطييف اللبناني المنهجي دفع بالأوهام في بلدان المشرق الأخرى إلى الاعتقاد بأنها «ليست طائفية»، ليست كلبنان. كان ذلك قبل أن يتبين أن مجتمعاتها تعاني احتقانًا والتهابًا أشدّ بكثير من كل ما عرفه التاريخ اللبناني، الحافل من جهته – لا جدال – بالاقتتال المتنوع بين الجماعات الدينية.
المفارقة أن عدوى الاقتتال بين الموارنة والدروز عام 1860 انتقلت إلى دمشق، حيث تحوّلت إلى مجازر ارتكبتها أوساط إسلامية، مستاءة من الإصلاحات العثمانية، بحق الروم. يومها، بدا المشهد تكامليًا بين «الدروز» و«السنّة» في مواجهة المسيحيين، مع أن التنافر بين الموارنة والروم لم يكن قد زال بعد، كما سيحدث لاحقًا في القرن التالي، تدريجيًا، وخصوصًا في لبنان، نتيجة «التموّرُن السياسي» لمعظم مسيحييه من غير الموارنة.
أما اليوم، فالمشهد مختلف كليًا. وهذا التقلب يُشير إلى أن التطييف سياسي بامتياز، لكنه عنيف بامتياز أيضًا. وهو لا يعني، في المقابل، أن المِلل هي «أحزاب»، بل جماعات لها مقدار معين من التبلور الإثني، ومن الحق في الاختلاف الثقافي، بما في ذلك الاختلاف الثقافي – الجغرافي. وطالما أن مثل هذه المسائل مستبعدة من دائرة النقاش، تحت طائلة الوقوع في فاحشة «الثقافوية»، فإن النقاش نفسه سيبقى مستبعدًا عن الجَد.