درجت العادة أمام هول الأمور أن يتمثّل الناس بقول: هذه ولادة قيصرية؛ في زمن لم يكن قد عرف فيه الطب تقدّمًا في مواد التخدير وسُبُله.
وكانت هذه الولادة القيصرية أحيانًا وسمة شؤم على المولود الذي أخرجته – ظاهرًا - من ظلمة الرحم إلى نور الحياة. ولعلَّ هذا الشؤم واقع لا قدّر الله منه مفرًا لمُخرَجٍ كانت الأرزة رمزه وشعاره... نعم إنَّه لبنان!
لبنان ولد قيصريًا. ولادة أسالت دمًا كثيرًا. بدءًا بعهد الإمارة، وصولاً إلى عهد الجمهورية. ولادة ذبحت الأب والأم من الوريد، ووضعت الرضيع على كفِّ عفريت صغير ليكون له سلوى.
وشبَّ هذا الرضيع على كفِّ هذا العفريت، وقد تعوّد عدم الثبات، واللف والدوران، والسباحة في الهواء كأنّه بهلوان... قبل أن تلوكه الأرض بكسر جمجمة، أو شُهب نار، تحرقه كثيرًا كلّما التأمت الجراح، وتحفر فيه الأخاديد، تكسر له يداً ورِجلاً وظهراً، وتبدّله له أطرافًا اصطناعية بجلودٍ بشرية ليخال ذاته فينيقًا ينهض من الرماد... وهو في الحقيقة لعبة في يد جاهل حُرِم كينونة العقل والحِلم والحزن والفن والإيقاع...
وإذا ما توفّر لهذا الذي شبَّ يومًا نصيرًا يُمسك له اليد، ويرأب له كسور العظم، ويبلسم له الروح، وينعش له النفس، ويهبه ملكة العقل، نهض في كفِّ هذا الذي شبَّ عفاريت تتسلّل إلى الأسماع والآذان والأفواه والأنامل والمقاصد والمواسم والمنافذ والأفئدة، تشوّه ما فيها من إدراك، وحلم، وعدل، وفهم، ومنطق، وتمييز، وسعي، ولا زيف، ولا نميمة، ولا شتيمة.
فالحال أنَّ مكارم الأخلاق أصبحت طيف ذكرى منسيّة، وقد تبوأ السفهاء المنابر، وصدحت بحناجرهم الشاشات يلوكون بها في أعراض الناس، ومصائرهم، ومسيراتهم، وتاريخهم، واعتدالهم، وعدلهم، وماضيهم، وحاضرهم، وحتى مستقبلهم، ومآثرهم، وبيض صحائفهم.
إقرأ أيضاً: العلم ما بين الطالب والمطَالب: لبنان، وكرامة الإنسان
ومكارم الأخلاق أصبحت جنينًا وئد قبل أن يولد ويتصل به شريان الحياة، وقد خَرَق المدّعون الأرحامَ فأفسدوا ما فيها تجبّرًا وتجنّيًا وظلمًا وجورًا بفعل فاعل، وعن سبق تصوّر وتصميم...
مكارم الأخلاق أصبحت لعبةً، بل مديةً نبشت قبر سُكَين، وبعثت فيه الروح في ألف رجل ورجل وامرأة، ممّن ادّعوا التقوى، وأظهروا الإيمان، وأبطنوا المخطّط الذي رسمه لهم إبليس من خارج الحدود، وخارج التوحيد، ليكون هو المحنة الأكبر التي يعرفها الموحّدون في تاريخهم. لأنَّ العدوّ هذه المرة ليس السيف المسلّط من الأعداء، بل المهنّد القاطع الملتهب الهاجر قِرابه إلى يمين ابن صاحب البيت مُسلّطًا على رقبة ربّ البيت وذرّيته.
سُكين تجلّى في هذا العصر مدَدًا من مدّعي الحفاظ على الحقيقة، والحقيقة المطلقة لم تُسلِّم قيدها إلى أحد ليفك أسرارها، ويبلغَ كنهها، مهما كانت الأقوال المتناقلة، ومهما شُدَّت الأسانيد، ومهما تضمنت المتون من سير وأخبار وعِبر.
سُكين تجلّى في هذا العصر بإناث وذكور تبوأوا المنابر يتسفّهون ويجترون السُّباب الذي يبدو أنَّه هو صباغ شخصياتهم الأوحد، وحدود عقولهم البتراء، التي تتقن الشرَّ والتجني، أكثر مما تتقن الصدق الذي تدَّعيه، والحق الذي تداعبه في مخيلات المتلقّين...
إقرأ أيضاً: المفوض السامي "الجديد"
سكُين تجلّى في هذا العصر في فاسقين يقذون الناس في أخلاقهم وأعراضهم ودينهم وتاريخهم من دون دليل، من دون حجة، من دون برهان، سندهم في ما يقذفونه سند يستند إلى مجهول، ومصدر يعتمر في المجهول. واتكالهم - في ما هم يصنعون - على بساطة الناس، وتقاعسهم عن البحث، والنقد، والتحليل؛ واكتفائهم بالنقل، ونشوة الغريزة بالقيل والقال، واِدعاء الفهم والمعرفة التي فيها لا يرتعون، ولا يفقهون ولا يدنون ولو قاب قوسين أو أدنى، وإلاَّ لكانوا بما يُقال يتفكّرون...
الله أعلى الإنسان بما ميّزه فيه من عقل، هو العقل الذي يُطلب منه أن يضعه جانبًا، ليُسَاق من جبناء لا يعرفون من المواجهة إلاَّ الحرب من خلف الحجب والستار، ستار الأسماء المستعارة، أو الشعارات الرنّانة، أو وجوهٍ طالت ألسنتها، وقَصُر صدقها، وزاد فحشها، وقلَّ دينها، وعظُم كيدها، ووَضَعَ ضميرُها، وتوالد بلاها، وعَقَم فلاحـُها، وازدهرت مصائبها، وبادت مراثيها، وفاخرت نواقصُها، وقحلت مباديها، وفاضت قباحتها، وشحّت مآقيها، وفاحت نتانتها، وضلّت مساعيها، وعلت أصواتها جعجعة، ومات الصدق في مبانيها.
جبناء ووجوه هي للعقل الضد، ضدٌّ تناسى أنّ خالقَهُ ينظر الخلقَ بعين العدل ليكافيه، ويسقهِ من حيث كان للحقيقة بالظلم ساقيها...
إقرأ أيضاً: القاضي نجاة أبو شقرا ملح هذه الأرض الطيبة
جبناء ووجوه تدّعي التوحيد، وتعلن نفسها للتوحيد حامية، وتجلُّ نفسها عن كل عيب، وكل قصور في الفهم والمسلك، لتُسقِط في ما يخرج عن لسانها على الآخرين كلَّ عيبٍ فيها، وكأنَّها الجلال في كماله، والصدق في هلاله، والغيب في جبريله، والوحي في نبيّه! وهي في الجلال الذي تدّعي، والتوحيد الذي عليه تغار وترعوي، تدّعي نصرًا من دون نُصرة له في ما فيه من مكارم أخلاق، وصون نفوس، وصدق لسان، وحفظ إخوان، وعِبرٍ، وحكمة، وعقلٍ، وصونٍ للجماعة، ولا إقصاء، ولا تكفير، ولا امتهان، ولا تجنٍّ، ولا سباب، ولا تجريح.
خطورة مرض السرطان أنَّه خلية من خلايا الجسد، يأمنها الجسد، ويألفها، وهي له بالشر تتربصُ...
وخطورة هؤلاء، أنَّهم، يضعون الوطن والتوحيد على كفّ عفريت مقابل رقم يتصدر حسابًا دنيويًا، أو سلطةً فانيةً، تسلطًا...
خطورة هؤلاء، أنَّ الناس لهم مستمعين، إيّاهم غير نابذين.
خطورة هؤلاء أنّهم من وطنٍ جعلوه على كف عفريت، وأرض جعلوها على فوهة بركان عتيق، وتوحيد أدخلوه متون محنة تكاد تلوح كأنَّها الأخطر في التاريخ...