: آخر تحديث

هل حانت لحظة العقاب؟

53
59
45
مواضيع ذات صلة

لأول مرة منذ تأسيس دولة جنوب السودان في العام 2011، يشد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الرحال إليها في "زيارة رسمية خاطفة"، رافقه فيها وفد مصري مصغر من كبار رجال الدولة، على رأسهم رئيس جهاز المخابرات العامة اللواء عباس كامل. والتقى السيسي خلاله زيارته بالرئيس سلفا كير، ونائبه رياك مشار. وعقد الطرفان اجتماعًا تناقشا فيه في كل القضايا ذات الاهتمام المشترك، والتنمية الاقتصادية وجهود إحلال السلام في جنوب السودان، بالإضافة إلى القضية الأهم والأخطر سد النهضة ومياه نهر النيل.
 
مثل هذه الزيارات الرئاسية عادة مع يتم الإعلان عنها مسبقًا، بل يتم التنسيق والإعداد لها قبلها بأسابيع، وأحيانًا شهور، لكن تلك الزيارة الخاطفة"، إلا إذا كانت الزيارة تحمل ملفات غاية في الحساسية، ورسائل لا يمكن أن يقوم بها أحد كبار رجال الدولة، بل يجب أن يقوم بها الرئيس شخصيًا.
 
زيارة السيسي إلى جنوب السودان في هذا التوقيت الحرج من عمر منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل، لها دلالات مهمة. ولا يمكن أن تكون زيارة لبحث التنمية في جنوب السودان ومشاركة القطاع الخاص المصري في تلك الجهود، فهذا الملف يمكن أن يقوم به رئيس الحكومة أو وزير الاقتصاد. ولا يمكن أن تكون الزيارة للتعبير عن أهمية استمرار مباحثات السلام في جوبا، فهذا الملف يمكن أن يتولاه وزير الخارجية سامح شكري أو رئيس جهاز المخابرات عباس كامل.
 
السيسي ذهب إلى جوبا من أجل ملف حساس وخطير، يتجاوز مهام كل هؤلاء، ويستلزم الحديث مع رئيس جنوب السودان سلفا كير وجها لوجه، حتى يسمع منه، ويرى تعبيرات وجهه، وردات فعله بدون وسيط، ويحصل منه على الرد مباشرة. وقد يكون ملف سد النهضة، وصل إلى نقطة حاسمة، ويتطلب التنسيق مع جنوب السودان.
 
من ينظر في طريقة تعاطي مصر مع الأزمات الكبرى عبر تاريخها، يدرك أنها تعتمد على سياسة الصبر وطول النفس مع الطرف الآخر أو الخصم. وتستنفد معه كافة الوسائل السياسية والدبلوماسية، حتى إذا وصلت إلى محطة فقدان الأمل تمامًا، توجه إليه ضربة قاصمة، وتعطيه درسًا لا ينساه أبدًا، بالبلدي كده "بتقطع رقبته وتعلم عليه".
 
التاريخ يثبت ذلك. عندما احتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء في 5 يونيو 1967. خاضت مفاوضات شاقة، وعندما وصلت  إلى طريق مسدود، شنت حربها المقدسة في 6 أكتوبر 1973. وهزمت الجيش الإسرائيلي، وأسقطت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأذلته ومرغت أنفه في التراب. وما لم يستطع أي جيش آخر أن يفعلها من قبل أو من بعد.
 
وفي أزمتها من نظام حكم عمر البشير في السودان، لم تتخل مصر عن صبرها وحلمها. رغم أنه حول أرض السودان الطيبة إلى مأوى للجماعات الإرهابية، وخطط ومول محاولة اغتيال الرئيس الرحل حسني مبارك في أديس أبابا عام 1997. ورغم أنه وفر المأوى الآمن لعناصر وقيادات جماعة الإخوان بعد ثورة 30 يونيو 2013، وسمح لهم بشن عمليات إرهابية ضد المصريين. وساهم في خلق أزمة مثلث حلايب وشلاتين، وحاول صنع أزمة دولية مع القاهرة، بل وتحالف مع نظام رجب أردوغان في تركيا، ووعده ببناء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر على أرض جزيرة سواكن السودانية على مقربة من الحدود المصرية. بل حاول توريط مصر في أزمة مع إثيوبيا، عندما زعم أن مصر تبني قواعد عسكرية في جنوب السودان لضرب ضد النهضة.
 
لكن أين هو عمر البشير ونظام حكمه الآن؟ في السجن يحاكم على إفقار الشعب السوداني، وتحويل بلاده الطيبة إلى أرض للإرهابيين، وهاهم السودانيون يحكمون بلادهم ويتطلعون مع مصر إلى مستقبل أفضل.
 
وما أزمة ليبيا عنا ببعيدة. مصر دعمت الأطراف الليبية بعد سقوط نظام معمر القذافي ومقتله في سبتمبر 2011، ودعتهم فرادي وجماعات إلى القاهرة من أجل لم الشمل وتوحيد مؤسسات الدولة، إلا أن بعضهم أبى إلا الاستكبار والاستقواء بالدول الأخرى. وشرد رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج بعيدًا عن الصف الليبي، واستعان بتركيا وقطر، ضد مصر، وظن أنه سوف يصل إلى الحدود المصرية على ظهر الدبابات التركية. وفرح أردوغان "والمرجفون الإخوان"، وظنوا أيضًا أنهم سوف يدخلون القاهرة من بوابة السلوم، إلا أن مصر وبدون رصاصة واحدة، رسمت لهم خطًا أحمر، وأعلنت أنها لن تسمح بتجاوزه، وكان ذك في شهر يونيو الماضي. ولم يجرؤ أحد على خطيه، حتى ولو من باب اختبار الإرادة العسكرية المصرية.
 
اتبعت مصر السياسة نفسها مع أزمة سد النهضة، وتحلت بالصبر والحلم مع إثيوبيا على مدار عشر سنوات. وبالمقابل، فإن النظام الحاكم في إثيوبيا تعامل بنوع من "الخسة"، واستغل الأجواء المضطربة التي صاحبت ثورة 25 يناير 2011، ثم ثورة 30 يونيو 2013، وشرع في بناء وتعلية السد، بمساعدة من دول كبرى، حتى وصل إلى انتهاء المرحلة الأولى من ملء بحيرة السد في شهر يوليو الماضي.
 
من ينظر إلى مجريات الأمور في الأسابيع القليلة الماضية، بدء من تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، أن مصر قد تفجر سد النهضة، ثم ما تلاه من مناورات عسكرية مع القوات المسلحة السودانية، يدرك جيدًا، أن مصر وصلت إلى نقطة "فقدان الأمل" من المسار السياسي مع النظام الإثيوبي، الذي يبدو أنه لا يتعامل باستعلاء وعناد مع مصر فقط، بل يمارس السياسة نفسها مع شعبه في الداخل، وها هو يدمر ويقتل ويشرد ملايين الإثيوبيين في إقليم تيجراي.
 
زيارة السيسي الخاطفة إلى "جوبا" بصحبة رئيس المخابرات العامة عباس كامل، لا يمكن قراءتها إلا في إطار ما يجري من أحداث دقيقة وخطيرة في الشرق الأفريقي، ومنها الحرب الأهلية في شمال إثيوبيا في إقليم تيجراي، وما تخلفه من أزمات على المنطقة، أخطرها عمليات نزوح عشرات الآلاف من الإثيوبيين إلى الدول المجاورة، وسوف يرتفع الرقم إلى ملايين عما قريب، لاسيما مع إعلان رئيس مجلس الوزراء آبي أحمد، أن الجيش الإثيوبي دخل إلى العاصمة ميكيلي، بما يعني أن الحرب الحقيقية قد بدأت، وسوف تتخذ أشكالا كثيرة معروفة في الحروب الأهلية الأفريقية، التي تتحول عادة إلى حروب عصابات ومليشيات، تجرى فيها أعمال قتل وتطهير عرقي واغتصاب وتدمير للأخضر واليابس.
 
التاريخ يقول إن مصر لم تشن حربًا ضد أية دولة أخرى، لأنها تعتنق عقيدة عسكرية معروفة منذ آلاف السنين، وهي عقيدة الدفاع عن الأرض. كما أن التاريخ يؤكد أنها لم تستغل أو تستثمر الأزمات التي تعاني منها الدول الأخرى، حتى وإن كانت في خصومة معها، لأنها  تؤمن أن إنفاق الأموال على التنمية الاقتصادية أفضل من إهدار في الحروب والنزاعات.
 
لكن التاريخ لم يذكر أن مصر مرت بأزمة وجودية مثل سد النهضة، ولذلك لا يمكن التنبؤ بطريقة التعامل مع تلك الأزمة. فهل حانت لحظة العقاب؟
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي