: آخر تحديث

الديمقراطية الانتقالية في العراق: تجربة فرضتها الولايات المتحدة

1
2
2

الديمقراطية الانتقالية هي مرحلة يمر بها المجتمع عندما يتحوّل من حكم سلطوي أو نظام غير ديمقراطي إلى حكم يشارك فيه الناس في اتخاذ القرار ويُعطى فيه صوت للجميع. هي ليست ديمقراطية كاملة، لكنها فترة مهمة للتعلّم والتجربة، يختبر فيها الناس والمؤسسات قدرتهم على إدارة الاختلافات، وضمان العدالة، وبناء قواعد قوية للسلطة. يمكن القول إن الديمقراطية الانتقالية هي مسار مليء بالتحديات، لكنها فرصة حقيقية لتأسيس مجتمع أكثر حرية ومشاركة.

بعد غزو العراق عام 2003، دخلت الولايات المتحدة البلاد ليس فقط كقوة عسكرية، بل كمخطط سياسي يسعى لإعادة تشكيل النظام السياسي. وكما أوضحنا، الديمقراطية الانتقالية تُعد فرصة لإدارة التحول من حكم سلطوي إلى نظام سياسي أكثر مشاركة، لكنها مرحلة معقدة مليئة بالتحديات، وغالبًا ما تُستخدم من قبل القوى المؤثرة لتوجيه التحول السياسي بما يخدم مصالحها.

في العراق، بدا أن واشنطن استخدمت الديمقراطية الانتقالية أداة لتقسيم السلطة وفق الانتماءات الطائفية والإثنية، بدلاً من تأسيس دولة قائمة على المواطنة المتساوية. فور الاحتلال، شكّلت الولايات المتحدة مجلس الحكم الانتقالي، الذي ضم ممثلين عن المكونات الرئيسية: الشيعة، السنة، والأكراد. لم يكن اختيار أعضاء المجلس مبنياً على الكفاءة أو التمثيل الشعبي الكامل، بل على الانتماء الطائفي والإثني، وهكذا بدأ تقسيم السلطة بشكل رسمي قبل وضع الدستور.

عندما أُقر الدستور العراقي عام 2005، جاء ليؤكد هذا التوجه، إذ منحهُ صلاحيات واسعة للمكونات الثلاثة، وترك مجالاً واسعاً للفيدرالية الطائفية والإثنية. بدلاً من بناء نظام قائم على المواطنة والمساواة بين جميع العراقيين، ساعد الدستور على ترسيخ الانقسامات الداخلية، وأصبح الانتماء الديني أو الإثني أحد أهم معايير الوصول إلى المناصب السياسية. هذا الأسلوب في إدارة الديمقراطية الانتقالية كان له عدة آثار:

تعزيز الانقسامات الطائفية: بدل توحيد المجتمع، أصبح الانتماء للطائفة أو الإثنية عاملًا أساسيًا في السياسة، بل وأحد أهم المعايير في اختيار شاغلي الوظائف العليا في الدولة. ولا ننسى أن العامل الطائفي والمناطقي لعب دورًا محوريًا، فالنظام بعد 2003 بُني على المحاصصة الطائفية والقومية، مما جعل الانتخابات التشريعية أقرب إلى إحصاء طائفي منها إلى تنافس ديمقراطي حقيقي.

ضعف المؤسسات الوطنية: من الصعب تشكيل حكومة قوية تمثل جميع العراقيين بالتساوي، إذ تحولت المؤسسات إلى أدوات للتوازن بين المكونات الكبرى.

تسهيل النفوذ الخارجي: الانقسامات الداخلية جعلت العراق أكثر هشاشة أمام التدخلات من القوى الخارجية التي تسعى لتحقيق مصالحها.

الأطر الديمقراطية المعمول بها حاليًا في العراق، والتي فرضتها الولايات المتحدة خلال الفترة الانتقالية، ثبت أنها غير فعالة ولم تُنتج ديمقراطية حقيقية. دليل ذلك واضح في عزوف العراقيين المتكرر عن المشاركة في الانتخابات السابقة، وهو مؤشر قوي على فقدان الثقة بالنظام السياسي الحالي. ولا شك أن هذا النمط سيستمر في الانتخابات القادمة ما لم تُجرَ تغييرات جذرية تعيد بناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات.

إلى جانب ذلك، فإن طبيعة النظام الطائفي والتحاصصي جعلت منصب رئيس الوزراء بمثابة جائزة تفاوضية بين الكتل الكبرى في التحالف الحاكم، وليس انعكاسًا مباشرًا لإرادة الناخبين أو نتائج صناديق الاقتراع. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أن شخصيات مثل عادل عبد المهدي وصلت إلى رئاسة الوزراء رغم عدم امتلاكها كتلة برلمانية وازنة، وكذلك مصطفى الكاظمي الذي جاء عبر تسوية سياسية أكثر مما جاء عبر أصوات الناخبين. هذا النمط يوضح أن اختيار رؤساء الحكومات في العراق كان ثمرة صفقات بين القوى المهيمنة أكثر من كونه استجابة مباشرة لاختيارات الشعب، وهو ما عمّق أزمة الثقة بالعملية السياسية ورسّخ هيمنة "المحاصصة" على النظام منذ عام 2005.

التجربة العراقية بعد 2003 تظهر كيف يمكن استخدام الديمقراطية الانتقالية كأداة لإدارة التحول السياسي وفق مصالح خارجية، بدلًا من بناء دولة مواطنة جامعة. المرحلة الانتقالية في العراق لم تمنح الشعب فرصة حقيقية للمشاركة، بل كرّست الانقسامات الطائفية والإثنية، وأضعفت المؤسسات الوطنية، ما جعل الديمقراطية الحالية غير فعالة وفاقدة للمصداقية في نظر المواطنين.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي