: آخر تحديث

باسم الحياة التي تنتصر دوماً

1
1
1

محمد ناصر العطوان

من ذاكرة البحر والرمال... كان البحر يغني للرمال، والرمال تحكي للبحر... هنا، على أرض لا ترحم حيث لا زرع ولا بئر، تعلم الناس أن القسوة لا تُهزم بالقسوة، بل بقلب مفتوح وكفّ ممدودة... الكويت لم تبنِ أسواراً بين البشر لتفرق بينهم، بل شيدت جسوراً من ملح ودموع وضحكات متقاسمة.

وفي ملحمة البدايات وهجرة القلوب... في زمن كان الماء فيه أغلى من الدم، والظل أغلى من الذهب، اجتمعت قبائل العتوب حول بئر واحدة... جاءوا من صحراء نجد، وآخرون من دونهم جاءوا من سواحل فارس، من أرض العراق، ومن الأحساء الكبيرة... يحملون خبزهم ودينهم ومذاهبهم وأحلامهم. لم يسأل بعضهم بعضاً: «ماذا تعبد؟» بل سألوا: «ماذا تحتاج لتعيش؟».

فتعلمت الكويت... المبدأ الأول وهو التكيف مع الجغرافيا القاسية... حيث جعلتهم الصحراء والبحر يعرفون أن البقاء للأكثر مرونة، لا للأكثر قوة وصلابة.

أما المبدأ الثاني فقد كان في سوق العطاء واقتصاد التعايش... في سوق الكويت، كان صياد السفن السُّني يتبادل أطراف الحديث مع تاجر اللؤلؤ الشيعي، فيما المرأة البدوية تتبادل التمر بالقماش مع التاجر المسيحي في «المباركية». الحضري من شرق والبدوي من غرب، أهل الفنطاس وأهل الجهراء... الجميع تحت سقف السوق الكبير يتنافسون في البيع والشراء لكنهم لا يتنافسون في الانتماء... مسجد وكنسية تنمو كالنخيل بتجاور... مستشفى أميركاني وطب شعبي، كل منها يُسقى بماء واحد، وكل منها يظلل تحت سماء واحدة.

هذا النسيج الكويتي المتعدد لم يكن مجرد تعايش، بل كان اندماجاً عضوياً صنع شخصية الحياة الكويتية... البدوِي يقدم خبرة الصحراء وقيم الكرم... والحضري يقدم حرفية الصنعة وعلوم التجارة، وسكان الساحل يقدمون فنون الملاحة وثقافة الانفتاح، وسكان الداخل يقدمون صمود الأرض وحكمة التأسيس. لم يكن أحد يسأل: «من أين جئت؟» بل كان السؤال: «ماذا يمكننا أن نبني معاً؟»

فتعلمت الكويت المبدأ الثاني وهو الاقتصاد كجسر للتواصل، حيث جعلهم الميناء التجاري يعرفون أن الثروة لا تأتي من الاحتكار، بل من تعدد الأيدي التي تبني.

أما المبدأ الثالث لشخصية الكويت فكان تحت شجرة كشك مبارك، كان الشيخ يستمع إلى الخصوم بين تاجر هندوسي وبحار مسلم، بين وافد وكويتي، بين كويتي وكويتي، الحكمة كانت تقول: «العدل ظل الله على الأرض»، ولم يكن الظل يفرق بين شجرتين، فأثمرت الشجرة عن المبدأ الثالث وهو أن القانون حامٍ للتنوع وأننا أرض الصداقة والسلام، حيث جعلتهم القبيلة يعرفون أن النظام لا يقوم على القوة، بل على رضا الناس.

أما المبدأ الرابع فقد أمطر مع غيمة أغسطس واختبار النار في أغسطس 1990، عندما احتلت دبابات الغازي الأرض، لم تسأل عن هوية من في البيوت، في الأقبية المظلمة، كان القادم من الجنوب يخطط مع القادم من الشمال لضرب الأرتال ومقاومة الغزاة، والشيعي يخبئ السني، والبدوي يخبئ المدينة بكاملها... الدم الذي سال في الشوارع لم يحمل ألوان الطوائف، ولا الأرقام المتسلسلة في الجناسي فأنبتت الأرض المبدأ الرابع وهو الوحدة في مواجهة التحديات، حيث جعلتهم الأزمات يعرفون أن الخطر الحقيقي هو الانقسام، لا العدو.

ثم ماذا؟ السيل الذي غمر الأرض عام 1991 تراجع، لكن دموع التضامن بقيت. الرمال التي دفنت بيوت الأجداد زالت، لكن ذاكرة التعايش لم تمت، الكويت التي هزمت الغزاة بالوحدة، قادرة على أن تهزم أي انقسام بالتسامح.

يا أبناء الكويت!

أنتم شعب التكيف، الذي تعلم من الصحراء كيف يجد الماء في الصخور، أنتم شعب التجارة، الذي تعلم من البحر أن الثروة تأتي من باطن الأرض والبحر، أنتم شعب القانون، وأنتم شعب الوحدة، الذي تعلم من النار أن القلوب المتجاورة لا تحترق.

ها هي الكويت اليوم، بعد ثلاثة قرون، تقف كسدرة جذورها أعمق من أن تقتلع، وأغصانها أطول من أن تُقصر، كل عاصفة مرت عليها لم تكسرها، بل جعلتها تعرف بالضبط كم هي قوية.

«ليس المهم كم مرة سقطت، بل كم مرة نهضت فيها وأنت تحمل الآخرين معك». هذه ليست حكمة من كتاب، بل هي بصمة على جبين تاريخكم. وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد