ناهد الأغا
حين يرفع المايسترو عصاه، ويغمر الضوء الخافت المسرح، تكتشف الأرواح وجه وطن يعزف حضوره، ويكتب موسيقاه على صفحة العالم بثقة وسمو.. ثمة شيء ينمو في الهواء.. شيء يشبه البداية، بداية لا يعرفها إلا من انتظرها بعينين تلمعان بالشغف،عينين تحملان حنين الانتظار وفرحة اللحظة التي تكتشف فيها الموسيقى نفسها على الخشبة لأول مرة في الحفل؛ بدأت النغمة الاولى وهي تحمل روح الصحراء التي تعرف كيف تُهدهد الليل وتروّض المسافات، ثم لحقت بها النغمة الثانية، أكثر رقة، تشبه يدًا تلامس كتفًا برفق
ثم جاءت الثالثة.. تلك التي جعلتني أغمض عينيّ لحظة كأن المملكة كلها تنساب عبر أوتار الكمان.
هكذا كانت العاصمة الأنيقة، الرياض، برعاية صاحب السمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، وزير الثقافة ورئيس مجلس إدارة هيئة الموسيقى وعلى خشبة مركز الملك فهد الثقافي، حيث ارتسمت لوحة ساحرة من الضوء والصمت، واحتضنت القاعة جمهورًا يترقب اللحظة التي ستولد فيها أول نغمة.
في أمسيتين موسيقيتين، يومي 13 و14 نوفمبر الماضي، قدمت الأوركسترا والكورال الوطني السعودي عرض روائًع الأوركسترا السعودية، مسار إلى عالمٍ من الجمال والإبداع، مسار يتنفس الفن والحلم، ويؤكد حضور الموسيقى السعودية، مرسخا مكانتها على الساحة العالمية.
ويأتي تنظيم «روائع الأوركسترا السعودية» كامتداد طبيعي لمسيرة هيئة الموسيقى، بمثابة رحلة من نور الصوت إلى عمق الروح، امتدادًا لرحلة بدأت منذ سنوات، حملت ألحان التراث السعودي إلى عواصم العالم؛ من باريس إلى نيويورك، مرورًا بلندن وطوكيو، قبل أن تعود لتضيء الرياض بعروضها الساحرة، ثم تنتقل إلى سيدني، تعانق قصر فيرساي في باريس.
في قلب رؤية المملكة 2030، ينبض الحراك الثقافي كقوة فاعلة تصنع المستقبل، والموسيقى إحدى أهم مفاتيح هذا التحوّل هي الأوركسترا السعودية، وهيئة الموسيقى، منذ تأسيسها، كانت حارسة تراث وصانعة أحلام، تفتح الأبواب أمام المواهب، وتجمع بين الأصالة والحداثة، بين التراث الغني والفن العالمي، من اختيار القطع الموسيقية بعناية، إلى تدريب العازفين، وتصميم البرامج الحية حيث تعمل الهيئة لتصنع حفلة تجربة متكاملة، ولتجعل النغمة جسراً يربط الماضي بالحاضر، والمملكة بالعالم.
ففي كل عرض، يظهر حرص الهيئة في الحفاظ على الهوية الوطنية، من خلال دمج الآلات التقليدية مع الغربية، وإدماج ألحان التراث في السياق الموسيقي المعاصر، لتظل الموسيقى السعودية صوتًا يحمل أصالة الوطن، ويعبّر عن روحه وقيمه، بينما يسافر في آنٍ واحد إلى قلب العالم.
الأوركسترا السعودية سفيرة حضارية ولغة تُفهم بلا ترجمة تأسست لتكون جسراً بين التراث والحداثة، بين الجذور الممتدة في عمق الأرض، والآفاق التي تطلق الروح نحو السماء، تجمع بين العازفين السعوديين الذين نهلوا أسرار الموسيقى في أرقى المعاهد العالمية، وبين عازفين من مختلف بقاع الأرض، لتصنع تجربة فريدة تمزج بين الأصالة والابتكار، بين المحلية والعالمية.
والجمهور يحتفي في الموسيقى مع كل وتر.
وفي النهاية، ندرك أن الفن لا يأتي إلينا فقط.. بل يأتي بنا، ينقلنا إلى قلب المملكة، يجعلنا جزءًا من نبضها، جزءًا من حلمها الذي لا ينتهي.
قفوا بين أوتار الموسيقى واستمعوا إلى قلب المملكة ينبض في كل نغمة فروائع الأوركسترا السعودية تدعوك دائما لتكون جزءًا من رحلة تتنقل بين التراث والحداثة، بين الأصالة والابتكار، نحن جزء من المشهد الثقافي العالمي، ونملك ما يستحق أن يُسمع، ويُبهر، ويُدوَّن.

