: آخر تحديث

كردستان والأمل المنشود

2
2
2

لم تكن اتفاقية «سايكس - بيكو» عام 1916 مجرد إعادة رسم لحدود الشرق الأوسط مع انهيار الدولة العثمانية، بل كانت لحظة مفصلية حُرم فيها الشعب الكردي من كيانه الوطني رغم وعود الحلفاء المبكرة. منذ ذلك التاريخ، تتابعت الانتفاضات والثورات الكردية لتؤكد أن كردستان ليست أرضاً بلا أصحاب، بل وطن له أهله وتاريخه ومطالبه بالحرية وتقرير المصير. وأولى تلك الانتفاضات الحديثة قادها الشيخ عبد السلام بارزاني في عام 1907 ضد السلطات العثمانية، مطالباً باعتماد الكردية لغة رسمية في المدارس والإدارات، وتولية مسؤولين يتكلمون بها في الأقضية الكردية، إضافة إلى إنفاق الضرائب محلياً. لم تستجب الدولة لمطالبه، بل لاحقته حتى اعتُقل وأُعدم في الموصل يوم 14 ديسمبر (كانون الأول) 1914، فأصبح رمزاً مبكراً للحركة القومية الكردية. بعده حمل أخوه الشيخ أحمد بارزاني المشعل، فقاد بين 1931 و1932 ثورات واسعة ضد حكومة بغداد المدعومة بالطيران البريطاني، انتهت بنفيه إلى جنوب العراق بعد فترة احتجاز في تركيا. وقد برز في تلك الأحداث اسم الملا مصطفى بارزاني، الذي سيصبح لاحقاً القائد الأبرز للحركة التحررية الكردية.

وفي السليمانية، برز الشيخ محمود الحفيد، الذي قاد ثورة عام 1919 ضد سلطات الانتداب البريطاني، معلناً رفضه إدخال كردستان ضمن ترتيبات «سايكس - بيكو»، وفي عام 1922 أعلن نفسه ملكاً على «مملكة كردستان»، في محاولة حديثة أولى لإقامة كيان سياسي كردي موازٍ للمملكة العراقية التي أنشأها البريطانيون، لكن بريطانيا لم تسمح للتجربة بالاستمرار، فقصفت السليمانية وأسقطت المملكة عام 1924، ونفت الحفيد إلى الهند، لتُطوى صفحة التجربة الأولى لإعلان دولة كردية.

في تلك الأثناء بقيت ولاية الموصل خارج حدود المملكة العراقية الجديدة، وظلت موضع نزاع حتى 16 ديسمبر 1925 حين أوصت عصبة الأمم بإلحاقها بالعراق، وهو ما جرى تثبيته في «معاهدة أنقرة» عام 1926، مقابل وعود رسمية بمنح الكرد حقوقهم الثقافية والإدارية، إلا إن الحكومات العراقية المتعاقبة نكثت بالوعود، ليستمر مسلسل الثورات والانتفاضات. ويذكر المؤرخ خير الدين العمري رواية عن رسالة من الملك فيصل الأول إلى وينستون تشرشل يشكو فيها صعوبة إخضاع الكرد، فجاءه الرد المنسوب: «لقد منحناكم مملكة لا إمبراطورية، وحدودكم من البصرة إلى جبال حمرين، وما وراء ذلك كردستان»، وهو تعبير صريح عن أن كردستان لم تكن أصلاً جزءاً من العراق الوليد.

أما في الجزء الشرقي من كردستان، فقد أُعلنت جمهورية مهاباد يوم 22 يناير (كانون الثاني) 1946 بدعم سوفياتي، وكان الملا مصطفى بارزاني أحد أبرز قادتها العسكريين، لكن بانسحاب السوفيات انهارت الجمهورية في ديسمبر من العام نفسه، فقاد بارزاني انسحاباً تاريخياً إلى الاتحاد السوفياتي عام 1947، قبل أن يعود إلى العراق بعد ثورة 1958.

وفي 11 سبتمبر (أيلول) 1961، اندلعت «ثورة أيلول» بقيادة الملا مصطفى بارزاني، لتفتح فصلاً جديداً من الصراع الكردي - العراقي، وتؤسس لمسار طويل انتهى لاحقاً بالاعتراف الدستوري بإقليم كردستان بعد عام 2003. وإذا كانت «ثورة أيلول» قد دشّنت طوراً جديداً من النضال، فإن «انتفاضة الربيع» في مارس (آذار) 1991 مثّلت التحول الأكبر في التاريخ الحديث؛ إذ أفضت إلى ولادة أول كيان سياسي كردي معترف به دولياً، هو إقليم كردستان العراق، الذي رسّخ نفسه لاحقاً في الدستور العراقي نموذجاً مزدهراً للنظام الفيدرالي. وقد شكّل هذا الكيان إنجازاً تاريخياً لم يقتصر تأثيره على جنوب كردستان فقط، بل ألقى بظلاله على سائر الأجزاء الأخرى، بوصفه خطوة أولية وحلّاً مرحلياً لقضية شعب ما زال يطالب بحقوقه القومية المشروعة.

إن قراءة هذا التاريخ بإنصاف تكشف عن أن القضية الكردية لم تكن خروجاً على الدولة، بل مطالبة متكررة بالوفاء بوعود دولية، وبتحقيق شراكة حقيقية قائمة على المساواة والاعتراف المتبادل، وما لم تتحقق هذه الشراكة، فستظل جذور النزاع قائمة كما كانت منذ بدايات القرن العشرين وحتى اليوم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد