: آخر تحديث

متعة الترفيه

1
1
1

الترفيه ليس رفاهية عابرة، بل مكون جوهري لصحة المجتمع.. فهو يُذيب الضغوط، ويُحيي الروابط الإنسانية، ويمنحنا أدوات للتعبير عن الذات في عالم يُنهك الروح.. و«موسم الرياض» يُثبت أن الاستثمار في الفرح الجماعي ليس رفاهية اقتصادية، بل استثمارٌ في رأس المال البشري..

أصبحت الصحة النفسية تحديًا مركزيًّا يواجه المجتمعات حول العالم.. وسط هذا السياق، تبرز متعة الترفيه ليس كـ"ترف" فحسب، بل كضرورة حيوية لتعزيز المرونة النفسية وبناء مجتمعات أكثر تماسكًا، فبينما تتصاعد معدلات القلق والاكتئاب عالميًّا، تُظهر الدراسات أن الانخراط في الأنشطة الترفيهية يُسهم في خفض مستويات التوتر، وتعزيز الروابط الاجتماعية، وتقديم مساحة آمنة لمعالجة المشاعر المعقدة. فكيف تتحول اللحظات البسيطة من الفرح إلى أداة علاجية جماعية؟

تُعد وسائل الترفيه المتنوعة، من مشاهدة الأفلام إلى الاستماع للموسيقى أو لعب الألعاب الإلكترونية، من أقوى الوسائل لمحاربة التوتر المزمن. عند الانغماس في نشاط ممتع، يفرز الدماغ "الدوبامين"، الناقل العصبي المرتبط بالسعادة، مما يعوض ارتفاع هرمون "الكورتيزول" المرتبط بالضغط النفسي. وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة Psychological Science عام 2021، خفضت 20 دقيقة يوميًّا من الأنشطة الترفيهية مؤشرات التوتر بنسبة 27 % لدى المشاركين. حتى الأنشطة السلبية، مثل مشاهدة مسلسل مفضل، تمنح العقل فرصة لـ"الاستراحة الإدراكية"، وهي ضرورية لاستعادة التوازن العاطفي. ففي عالمٍ يُرهقنا فيه العمل والمسؤوليات، يصبح الترفيه جرعة وقائية تُذيب الجمود النفسي وتعيد شحن الطاقة.

لا يقتصر أثر الترفيه على الفرد، بل يمتد ليُعيد بناء نسيج المجتمع. فالمهرجانات الموسيقية، والألعاب الجماعية، والفعاليات الثقافية تخلق فرصًا للتفاعل الجماعي، خاصة في ظل انتشار الوحدة بعد جائحة كوفيد-19. وفقًا لتقرير نُشر في مجلة The Lancet عام 2023، سجلت المجتمعات التي تُنظم فعاليات جماعية منتظمة انخفاضًا بنسبة 30 % في معدلات الاكتئاب. فعندما يشارك الناس في ضحك جماعي في نادي كوميديا، أو يرقصون معًا في مهرجان موسيقي، يُفعّلون "الإندورفين" الذي يعزز الشعور بالانتماء. هنا، يصبح الترفيه جسرًا يربط الأفراد، ويذيب الحواجز الاجتماعية، ويذكّرنا بأن الإنسانية تُبنى على الفرح المشترك.

تُقدّم الترفيهات أيضًا مساحة لاستكشاف المشاعر دون خوف. فالموسيقى والأفلام والمسرحيات تُمكّن الأفراد من تجسيد تجاربهم الداخلية، وهو ما يُعدّ شكلًا من أشكال العلاج غير المباشر. دراسة عام 2022 في مجلة The Arts in Psychotherapy كشفت أن 68 % من المشاركين استخدموا الفنون لمعالجة الحزن أو القلق، مُعبرين عن أن القصص التي تعكس مشاعرهم ساعدتهم على فهم ذاتهم. حتى الفكاهة تلعب دورًا جوهريًّا؛ فضحك الشخص على موقف ساخر يُعيد تشكيل إدراكه للمشكلة، ويقلل من حدّتها النفسية. كما أن المشاركة الفعّالة في الأنشطة الإبداعية، مثل الرسم أو الرقص، تُحفز مناطق الدماغ المرتبطة بحل المشكلات، ما يعزز المرونة العقلية في مواجهة التحديات.

في قلب هذه الرؤية، يبرز "موسم الرياض" كنموذج رائد لاستثمار الترفيه في بناء مجتمع صحي نفسيًّا. حيث حوّل هذا الحدث السنوي العاصمة إلى مُعلمٍ ثقافيٍّ يجمع بين التراث والحداثة. من "الواجهة الرياضية" المضيئة بعروضها الموسيقية إلى مدن ترفيهية، جذب الموسم في 2023 أكثر من 25 مليون زائر، مُقدّمًا فعاليات تشمل مهرجانات عالمية وألعابًا تفاعلية وعروضًا فولكلورية. هذه المبادرة لا تهدف إلى الترفيه فحسب، بل إلى مواجهة التحديات النفسية الناتجة عن التحول السريع في المجتمع السعودي، عبر توفير مساحات آمنة للتفاعل العائلي والاجتماعي. ففي مدنٍ تشهد تحولًا حضريًّا متسارعًا، يصبح الترفيه جزءًا من سياسة عامة تُعيد تعريف جودة الحياة.

الترفيه ليس رفاهية عابرة، بل مكون جوهري لصحة المجتمع. فهو يُذيب الضغوط، ويُحيي الروابط الإنسانية، ويمنحنا أدوات للتعبير عن الذات في عالم يُنهك الروح. و"موسم الرياض" يُثبت أن الاستثمار في الفرح الجماعي ليس رفاهية اقتصادية، بل استثمارٌ في رأس المال البشري. كما يؤكد عالم الأعصاب د. سوبي سكوت: "الضحك هو طريقة الدماغ لتحويل الضغط إلى اتصال اجتماعي.. دليلٌ على أن اللعب ليس حكرًا على الأطفال، بل ضرورة بقاء للروح الإنسانية".. وعندما نُنحّي جانباً واجباتنا لحظةً لنتفنن في الفرح، نحن لا نهرب من الواقع، بل نُعيد بنائه بيدٍ أكثر قوةً ورحابة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد