: آخر تحديث

فانس... الحضارة الغربية والأعمار السبعة

6
7
4

أوائل أبريل (نيسان) الماضي، وفي وسط مؤسسة «هيرتيج» الأميركية، مركز التفكير الرئيس لإدارة الرئيس دونالد ترمب، وفي حضور كيفن روبرتس، رئيس المؤسسة، ورسام خرائط البيت الأبيض الحالي، تحدث نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، في معرض مناقشته لكتاب «لا تعش بالأكاذيب» للكاتب الأميركي رود دريهر، القريب من قلب وعقل فانس، عن الأسباب التي تدفع الحضارة الغربية تحديداً إلى التراجع في حاضرات أيامنا.

كتاب دريهر يتناول قصة القمع الديني والإيماني في الاتحاد السوفياتي السابق.

الغريب والعجيب في تلك الأمسية، هو أن فانس كاد يرى تماثلاً بين ذلك القمع الذي جرت به المقادير، وطوال سبعة عقود تقريباً في حلف وارسو، وما يجري اليوم سواء داخل الولايات المتحدة، أو في كثير من الدول الغربية؛ حيث تُقمع الرؤى الإيمانية التي شكَّلت يوماً ركيزة أساسية في بنية الحضارة الغربية، لصالح العلمانية غير المستنيرة والمتطرفة.

وبنص فانس، فإن الأفكار الدينية المؤسِّسة للغرب لم تفقد شعبيتها فحسب، ولم تصبح أقل رواجاً مما كانت عليه في الداخل الأميركي قبل مائتي سنة، وألف سنة في أوروبا؛ بل باتت غير مرغوب فيها من الأصل.

فانس يقطع بأن كثيراً من النخب الحاكمة الغربية أضحت معادية للروحانيات، وباتت المادية الجدلية هي محور ومرتكز حياتها، ولا سيما بعد أن ظللت رأسمالية السوق وحسابات الربح والخسارة سماواتها، ومن دون أي متنفَّس إيماني أو وجداني.

يرى فانس أن الإنتلجنسيا الغربية تتمسك اليوم بالأكاذيب المغلفة بالحوافز والمكافآت المالية، والفوائد الاجتماعية، ما يجعل التضحية بالروح وبالحضارة والعائلة؛ بل وبالوطن، أمراً معروفاً وموصوفاً ومألوفاً.

ولعل الأكثر إثارة في مداخلة جي دي فانس في تلك الأمسية، هو محاولته الربط بين استنهاض القوى الحضارية الغربية، والإجراءات والأوامر التنفيذية التي أصدرها الرئيس ترمب خلال المائة يوم الأولى، مؤكداً أن طريق النصر النهائي طويل، وقد يحتاج إلى 20 أو 30 سنة، الأمر الذي يحمل ضمناً إيحاءات بوجود رؤى ومخططات لدى جماعة مؤسسة التراث، تتجاوز فترة ولاية ترمب أو ما يليها.

يعمد فانس إلى تقديم الولايات المتحدة كصنو ومرادف لفكرة الحضارة الغربية، وعنده أن الغرب في مجمله لن يستعيد تلك الحضارة وبناء مجتمع الفضائل، إلا بالخلاص من القيم الليبرالية التي اختُرعت قبل 20 أو 30 سنة، حسب وصفه، في إشارة لا تخطئها العين لسياسات تيار اليسار الديمقراطي بقيادة باراك أوباما وهيلاري كلينتون، ومؤخراً جو بايدن.

أحسن فانس صنعاً بالحديث عن الشجاعة اللازمة لقول الحقيقة والبحث عنها، في طريقه لكشف الوجه الزائف للحضارة الغربية التي قزَّمت الإنسان، ولا سيما عبر أوليغارشية وادي السليكون.

غير أنه يعنُّ لنا التساؤل: هل الأمر بالفعل على هذا النحو؟ أم أن ما يعيشه الغرب اليوم ما هو إلا تمثل لدورة الحضارة الإنسانية، كما رآها كثير من المؤرخين الثقات؟

عند المؤرخ الأميركي الشهير كارول كويغلي (1910- 1977)، المنظِّر لتطور الحضارات، والرجل الذي علَّم طلابه في معهد جورج تاون للخدمات الخارجية، وكان من بينهم شاب أصبح فيما بعد الرئيس بيل كلينتون، أن الحضارات مثل الإنسان: لها سبعة أعمار: المزج، والتطور، والتوسع، والصراع، ثم الوصول إلى مرحلة الإمبراطورية العالمية الشاملة، قبل الوصول إلى آخر مرحلتين: الانحطاط، ثم الاجتياح.

شرح كويغلي نظرية دورة الحياة بمقطع تقليدي قال فيه: «إنها عملية تطور... إن كل حضارة تولد وتدخل فترة من التوسع الحيوي، وتزداد في الحجم والسلطة، حتى تظهر أزمة في التنظيم».

أيكون ما قاله كويغلي عن أزمة التنظيم هو ما يضرب اليوم في جنبات الغرب، أوروبا وأميركا معاً؟

الثابت أنه عندما تمر الأزمة، ويعاد تنظيم الحضارة، تضعف إذَّاك حيويتها ومعنوياتها، ثم تدخل تلك الحضارة مرحلة الخمود، ثم الركود.

لكن متى تظهر الأزمات الداخلية؟

عادة يحدث ذلك بعد ما يطلق عليه أصحاب تلك الحضارات «العصر الذهبي»، أي المنطوق نفسه الذي يردده سيد البيت الأبيض، محاولاً صبغ ولايته الثانية بهذه الصبغة.

هنا يبرز -وكما نرى بالفعل- ضعف أخلاقي ومادي، الأمر الذي يطرح أسئلة جوهرية ووجودية عن قدرة الحضارة على الدفاع عن نفسها ضد أعدائها الخارجيين، ولا سيما في ظل تناحر أبنائها في الداخل، ما يسمح بغرقها في نهاية الأمر.

هل بلغت الحضارة الغربية مرحلة كويغلي العمرية السابعة؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد