: آخر تحديث

الصحافة الأميركية.. بين التوحش والتدجين

3
2
4

تشبه الصحافة -في نظري- بعض الكائنات الحيَّة التي يمكن أنْ تجعلها ظروفًا معيَّنة متوحِّشة، وخارج السيطرة، ويمكن أنْ تُحوِّلها ظروف أُخْرى إلى كائنٍ رخوٍّ «مستأنس»، ليس له أنياب ولا مخالب، وكلا الأمرين هما في الواقع بمثابة إقصاء للصحافة عن وظائفها الأساسيَّة، وأهدافها السَّامية.. ويظل السؤال الباحث عن إجابة بهذا الخصوص هو: أين يكمن النموذج المثالي الذي يسمح للصحافة بالقيام بدورها بعيدًا عن «التوحُّش» المنبوذ، و»التدجين» المدمِّر؟.

هذا التساؤل خطر في بالي خلال اليوم العالمي للصحافة، الذي يصادف (3 مايو من كل عام)، وشهد هذا العام انحدار ترتيب الولايات المتحدة في مؤشر حريَّة الصحافة إلى أدنى مستوى في تاريخها، حيث تراجعت إلى المرتبة الـ57، متساوية بهذا الترتيب مع دول نامية مثل سيراليون وغامبيا.

وبتتبع هذا الانحدار، نجد أنَّه ليس وليد اليوم، ولكنَّه بدأ من أواخر التسعينيَّات، وهي الفترة التي شهدت ظهور وانتشار الإنترنت بكل ما حملته من تأثيرات؛ غيَّرت وجه مهنة الصحافة التقليديَّة، وأُسسها في العالم، وعرَّضتها لصعوبات اقتصاديَّة قاسية أضعفت كثيرًا قدرتها على مقاومة الضغوط من تهديدات وإغراءات.. ففي عام 2002 كانت الولايات المتحدة تحتل المرتبة الـ17، وهي مرتبة رغم أفضليتها الكبيرة عن مرتبة الـ57 الحالية، إلَّا أنَّها لا تليق بأيِّ حال بدولة مثل الولايات المتحدة.

تأرجح منذ ذلك الحين ترتيب الولايات المتحدة ضمن درجات متدنِّية، وصلت عام 2019 للمرتبة الـ48، وكان هذا العام هو أوَّل مرَّة تُصنَّف فيها الولايات المتحدة كدولة «إشكاليَّة» لحرية الصحافة، ويقع هذا التصنيف ضمن اللون البرتقالي.. حيث إنَّ تصنيف الدول يتم ضمن خمسة ألوان هي: الأبيض (تصنيف جيد)، يليه الأصفر (مقبول)، ثم البرتقالي (دول إشكاليَّة)، فالأحمر (أوضاع صعبة)، وأخيرًا الأسود (أوضاع صعبة للغاية). وتوصف الدول «الإشكاليَّة» بوجود تهديدات على الصحفيين تشمل الاعتداءات الجسديَّة، والقيود القانونيَّة والضغوط الاقتصاديَّة؛ ممَّا يؤثِّر سلبًا على قدرتهم على أداء مهامهم بحريَّة وأمان.

ويلوم البعض الرئيس ترمب على هذا الانحدار الأخير، نظرًا لاتِّسام فترتي ولايته الأولى والثانية بعلاقة متوترة مع الصحافة، وممارسات تقترب من كونها محاولات لترويض وتدجين الإعلام، أي تطويعه لخدمة أجندات سياسيَّة، وتحجيم دوره الرقابي. ومن ضمن تلك الممارسات: وصفه للصحافة بأنَّها «عدو الشعب»، اتِّهامها المستمر بالكذب، توبيخ وطرد المراسلين غير المؤيِّدين، وسحب تصاريحهم، تقييد الوصول للمؤتمرات الصحفيَّة، وحرمان وسائل إعلام بعينها من تغطية الأحداث الرسميَّة، والتهديد والترهيب بالدعاوى القضائيَّة المكلَّفة ماديًّا على الصحافة.

وتعتبر مثل هذه الممارسات أمراً مقلقاً وغير مألوف، سواءً للإعلام الأميركي المعروف بقوته وهيبته وتأثيره، أو للمبادئ والقيم الأميركية، نظراً لكونها ممارسات تضعف وظيفة الصحافة كسلطة رابعة مستقلة، ومحاولة للسيطرة على الإعلام وتقويض حرية التعبير، وفرض بيئة إعلامية خانعة ومستقطبة.

خلاصة القول، إنَّ مهنة الصحافة هي إحدى أكثر المهن تطلبًا لوجود بيئة عمل ملائمة، فعملها يتركز على نشر المعلومات وتحليلها وتسليط الضوء على الأخطاء والفساد والمخالفات، وأي محاولات لترويضها، أو تدجينها هو في الواقع إضعاف وتعطيل وإعاقة لدورها الحيوي الهام.

ولنا عودة لاستكمال الحديث حول جانب الـ «توحُّش» في ممارسات الصحافة.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد