في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2003، أجريت حواراً نُشر في «الشرق الأوسط» مع داعية سعودي كان وقتها نجماً إعلامياً، وقد كتب قصيدةً سارت بها الركبان يمتدح «بطولة» فلاح عراقي ادعى أنه أسقط ببندقية صيدٍ كان يحملها طائرة «أباتشي» أميركية... قال في قصيدته: «يا أبا منقاش أحسنت فزد/ فعلكم يا ابن العلا فعل الأسد/ (الأباتشي) أنت من أسقطها/ برصاص مثل حبات البرد/ يا فتى دجلة زدهم لهباً/ أمطر الجو ببرقٍ ورعد»... سألته: ألم تتسرع في نظم هذه القصيدة، حيث تبيّن أن «منقاش» لم يسقط «الأباتشي»؟ فردّ قائلاً: «على أي حال هذه اللمعة الأدبية لا بُدّ أن تُستّغل... الآن (عمورية) حين نظم فيها (عمر) أبو ريشة: (ربّ وامعتصماه انطلقت..) هل ثبت بأربعة شهود تلك المناسبة؛ واقعة عمورية، وأن المرأة ضُربت وصاحت (وامعتصماه)»، ثم قال: «هذه أخبار والأمور فيها تجري على المُثْبِتْ ما تجري على النافي..»، وراح يجادل قائلاً: «عليهم أن يثبتوا لنا أن أبا منقاش ما أسقط الطائرة..!». نعلم اليوم، كما كنا نعلم وقتها، أن «منقاش» لم يسقط طائرة «الأباتشي»، وأن صرخة «وامعتصماه» مجرد أسطورة، وأن سيلاً كالطوفان من الهراء والادعاء يملأ أدمغتنا ويشكل وعينا ويقودنا نحو شعارات زائفة أصبحت بديلاً عن العقل والحكمة.
البطولات الوهمية التي يصوغها الشعراء، خصوصاً ما قيل في الفخر والمعارك، كانت في البداية مجرد «تسالٍ» تشحن النفوس بالحماس وتطرب المستمعين لها في ليالي الشتاء... لكنها مع الوقت تسللت للوعي العام وهيمنت عليه. أصبحت ثقافة، صرنا نلجأ للبطولات الشعرية للتداوي من انكسارات الواقع.
في زمن الضعف قد يبدو صوت أبي تمام وعمرو بن كلثوم مغرياً، يمنح المستمع شعوراً بالعزة والانتصار، حتى لو كان ذلك وهماً، فالكلمات الملتهبة ترفع المعنويات، وتُلهب المشاعر، وتخلق هوية جمعية تحتاجها الأمم عند الانكسار. لكن هذا المجد الشعري لا يغير الواقع، لم تسقط الأندلس فجأة. سقطت ببطء شديد، بعد سلسلة من الخيانات، والتفكك، والصراعات بين ملوك الطوائف، وكان الشعراء الذين غصّ بهم بلاط ملوك الطوائف يكملون حفلة الترف واللهو والغزل بينما كانت الأندلس تحترق.
ومثل الأندلس جميع القضايا الخاسرة التي ربحناها في الإعلام والشعر والخطابة (وحالياً في وسائل التواصل) وخسرناها على الأرض والإنسان. الخطاب العاطفي الشعري هزم العقل مبكراً، صار ملاذاً أمام انكسارات الواقع وفجائعه، لا أحد يهمه أن يقيم ورشة تفكير ناقدة، الكل يبحث عن «أفيون» توفره الكلمات الحماسية لكي يفّر من كآبة الحاضر. عَمَلَ هذا الخطاب على تبسيط الواقع وتجميله، رغم مأساويته، ثم اشتغل على تضخيم الذات القومية والدينية، وتغذية التعالي الهوياتي، وتحويل المأساة إلى ملحمة، وأسوأ من ذلك أن تصبح الملحمة الوهمية رمزاً جماعياً لأمة منكوبة تجترّ أحزانها وسنوات نكبتها عاماً بعد عام، الرضوخ لهذا الخطاب أعاد تكوين ثقافة الخنوع للواقع وللرموز الفاشلة التي تطهرها الدعاية الموبوءة من كل أسباب الفشل والهزيمة والسقوط وتعيد إنتاجها في صورة الأبطال القوميين والتاريخيين، لكي يطلوا مجدداً من قبورهم على الأجيال الآتية ويعيدوا إنتاج ثقافتهم البائسة، وهكذا ينشأ جيلٌ مسكونٌ بالولاء الأعمى، والاندفاع العاطفي بدلاً من المحاسبة والمساءلة.
لماذا تتكرر الهزائم والانكسارات وتتوالد...؟ لأن أحداً لا يتعظّ! لا يريد الكثير أن يعيد التفكير في الأسباب والأشخاص والظروف... عوضاً عن هذا تنتشر عند كل هزيمة وخسارة أخبارٌ عن بطولات وهمية وسرديات زائفة عن الواقع، تشكّل بدورها الوعي العام بطريقة خطيرة ومدمرة، لكن الكثير من الناس يدمنون هذا الخطاب لأنه يشبعهم بالوهم ويخدّر مشاعرهم، ويستولي على عقولهم ويغذيها بالحماس المفرط...
عبر سيل من الهزائم المقدسة، جرى قتل الحسّ النقدي بالتخويف أو التأنيب، فمن يطالب بالنقد والمساءلة يُتهم بخيانة الانتماء، وهكذا يتعلم الناس التواطؤ على الصمت!