فيصل سليمان أبومزيد
يسهل إشعال نيران الفتنة في مدن تحترف الحريق، بينما يصعب إقناع الضحايا أن للأمل شرفات يمكن التسلل منها! السودان، منذ عقود على خريطة الألم، نزيف يتجدّد، وبلاد تنزلق من بين أصابع التاريخ، منذ انقلاب «الإنقاذ» عام 1989، حين تحالف الجنرال والمُنظّر.
فكانت الطعنة في خاصرة الديمقراطية الناشئة. أطاح عمر البشير، بزيه العسكري، ورغبة الإخواني حسن الترابي، المتقدة في الهيمنة، بحكومة الراحل الصادق المهدي، آخر ومضة مدنية في عيون السودان المجهدة.
فانزلقت الخرطوم من عاصمة للتعدد إلى مدينة مرهونة على قوائم الإرهاب، خنقها الحصار، وجوّعها الفساد، وأُقحمت في حروب الداخل والخارج. خرج الجنوب باحثاً عن وطن لا يسكنه الجنرال والمُنظّر.
جفّت الموارد، وانكمش الأمل، لكن الشعب الشقيق انتفض، وأسقط القناع عن «الكيزان» الاسم الشعبي لإخوان السودان، قبل أن ينهي ثلاثين عاماً من التغوّل والنهب والتقسيم.
ضاع السؤال الأخطر: من أشعل فتيل الحرب، وترك الشعب يبحث عن بقعة آمنة وأيادٍ لا تحمل بندقية؟
خرجت آلة التضليل من أوكارها، تنفخ في نار الصراع، وتصبّ الزيت على اللهب، ثم تُحاضر في الإنسانية. منصّات ممولة، تُبث الحكايات المسمومة، في كل اتجاه، حتى الإمارات التي طالما دعمت السودان لم تسلم.
الإخوان لا ينسون من يتعقب جرائمهم، وتنظيمهم. يترصدون اللحظة المناسبة ليكتبوا إفكهم، ينسجون رواياتهم الكاذبة، ويضعونها في فم كل مأجور أو حالم بالعودة إلى مقعد السلطة.
لا يغفرون أن دولة عربية كانت بين من دعموا شعب السودان وهو يُزيح نظام الجنرال والمُنظّر. لم يكن السودان يوماً فقيراً بالمعنى الذي يتسابق فيه المانحون إلى صناديق العون. كان غنيّاً بكل شيء: بالأنهار، والزراعة، والموقع، والناس، لكنه كان فقيراً بالحكمة التي تآمر عليها الإخوان، بعدما وُزّعت مفاصل السلطة على رجالهم، وباعوا البلاد في سوق المشاريع الإقليمية.
لم يكن عام الخلاص 2018، نهاية، بل بداية لمأساة جديدة. يحاول الإخوان العودة مجدداً في ثوب الضحية. يروّجون أن ما يجري ليس نتيجة إرثهم، بل مؤامرة صنعتها عواصم لا يعجبهم دورها، ولا يريحهم نموذجها.
الإمارات، ببساطة، تسير في اتجاه مضاد تماماً لمؤامرة الإخوان الإقليمية- الدولية. مشروعها في المنطقة ليس مشروع تغوّل، بل مشروع استقرار. ليس من مصلحتها أن تنهار الدول، ولا أن تهيمن الجماعات الخارجة من عباءة السلاح والفتاوى على المؤسسات.
تدرك الإمارات أن فراغ السلطة يملؤه المتطرفون، فتنحاز لذلك لحماية الدول من التفكك لا تأجيجه. ليست تلك التي يصورها الإعلام الإخواني، وأدواته المتسرّبة إلى السلطة الجديدة في السودان.
فالإمارات فتحت جسور الإغاثة، وتفاعلت مع آلاف الأشقاء بلا ضجيج. الإمارات التي يحاول الإخوان «وعواصم دعم الإرهاب» تشويه صورتها هي نفسها التي تسابق الزمن لترتيب طاولات الحوار حين تسكت المدافع، هي من تجمع الفرقاء وتسعى لفتح قنوات الحوار، دون أن تدّعي أنها تملك مفتاح الحل.
الردح الإعلامي الذي يستهدف الإمارات ليس جديداً من مصانع محتواها معروف العنوان: في عواصم أنفقت المليارات على الثورات التي لم تُثمر إلا فوضى. تلك العواصم التي تحوّلت إلى ملاذ آمن لكل مطرود من بلاده، ولكل مشروع مشبوه يبحث عن تمويل. صحيح أن الصوت الإخواني يبدو أحياناً صاخباً، لكن الحقيقة لا تخنقها الأبواق.
يرى السودانيون في عيون أبنائهم أن المستقبل لا يُبنى بالخطب، ولا بالأحلام المغشوشة. المأساة لا تقتصر على صراع مسلح، هو ضعف الحكم والقيادة السياسية، وخطيئة في التربية الوطنية، وفساد في النخب التي اختارت الولاء على الكفاءة.
اليوم، يحتاج السودان إلى من يُطفئ النيران، يحتاج إلى دعم حقيقي، لا إلى شعارات تُرسل من وراء الشاشات. لهذا، حين تمد الإمارات يدها، فإنها لا تفعل ذلك لمناكفة أحد، بل لأن أمن السودان جزء من أمن الإقليم. ولأن تفكيك السودان ضد الأمن القومي العربي!
الإعلام الإخواني لن ينجح في تزوير الخرائط ولا السياسات. من يتآمر على الإمارات، يخشون نموذجها التنموي المستقر. فقد أثبتت أن بناء الدولة ممكن، وأن الاستقرار ليس نقيض الحرية، وأن محاربة التطرف ليست رفاهية، بل ضرورة.
يدفع السودانيون ثمن قرارهم المصيري، عندما انتصروا، قبل سنوات، لنموذج دولة بلا جماعة، وسلطة بلا أجندة خارجية، لكن الأمل قائم، فالشعب الشقيق له أصدقاء، لا يريدون شيئاً سوى أن يعود إلى الحياة والاستقرار.