: آخر تحديث

لبنان: بسط سلطة الدولة والإصلاح شرطان لا مفر منهما

12
10
9

تُشكّل التحولات السياسيّة الأخيرة في الشرق الأوسط منعطفات غير مسبوقة، ويعتبرها البعض بمثابة «مرحلة تأسيسيّة» للحقبة المقبلة، أسوةً بما حدث في المحطات الأساسيّة السابقة في القرن العشرين، مثل وعد بلفور، واتفاقيّة سايكس بيكو، ونكبة 1948، ثم حرب 1967، وسواها من المراحل التاريخيّة المهمة التي تركت آثارها على الواقع لعقود طويلة.

كما أن لبنان، بدوره، يعيش تحولات عميقة بفعل تبدّل موازين القوى عقب الحرب الإسرائيليّة عليه، التي انتهت بوقف إطلاق النار في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، إلا أن الانتهاكات ما زالت يوميّة في مختلف المناطق اللبنانيّة. وتحتل إسرائيل لغاية اليوم خمس نقاط استراتيجيّة ترفض الانسحاب منها متذرعة باستكمال تطبيق التفاهم الذي ينص عليه وقف إطلاق النار.

واضحٌ أن الدعم الدولي للبنان معلقٌ بانتظار تحقيق التقدّم في ملفين وهما؛ الإصلاحات وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، بما يشمل عمليّاً تسليم سلاح «حزب الله»، وأن كل حراك سياسي لاستقطاب الدعم لن يجدي نفعاً قبل تحقيق نتائج ملموسة في هاتين القضيتين.

وإذا كان العهد الجديد بقيادة الرئيس اللبناني جوزيف عون، والحكومة الجديدة برئاسة القاضي نواف سلام، يتلمسان الطريق الأمثل لتحقيق خطوات عمليّة ناجعة في هذين الملفين، فإن ثمّة بشائر إيجابيّة يمكن تسجيل طلائعها في ملف الإصلاح الذي لطالما كان من أصعب الملفات وأكثرها تعقيداً على مدى عقود، نظراً لتداخله مع شبكة من المصالح السياسيّة والطائفيّة والمصلحيّة، الأمر الذي أدّى عمليّاً إلى تجذر الفساد وانتشاره على المستوى السياسي والاقتصادي والإداري.

فمشكلة المودعين اللبنانيين (وغير اللبنانيين ممن أودعوا أموالهم في المصارف اللبنانيّة) تتطلبُ حلاً عادلاً يحفظ حقوقهم ولا يحملهم الخسائر، لا سيّما أن 28 في المائة من الودائع لا تتجاوز قيمة الإيداع فيها المائة ألف دولار، أي أنها تصنّف بأنها من الودائع الصغيرة والمتوسطة، وتبلغ كلفتها الإجماليّة نحو 20 مليار دولار. وهذا يتطلب رزمة قوانين وإجراءات مثل السريّة المصرفيّة، ووقف سقوف التحويلات، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهي قوانين مهمة لها تأثيرات على الهوية الاقتصاديّة للبلاد.

لم يعد بالإمكان إدارة لبنان وفق الطريقة القديمة، فلقد دنت ساعة الحقيقة، وأصبح الجميع أمام مسؤولياتهم يسلكون دروباً جديدة من الإصلاح تتيح بناء واقع لبناني جديد يكون الاستقرار عنوانه الرئيسي، ويكون مكاناً جاذباً للاستثمار والتوظيفات التي انسحبت منه نظراً لواقعه السياسي والاقتصادي والمالي المأزوم.

فمسألة إعادة بناء الثقة مجدداً تقع في صلب أولويات العهد وهي تُشّكل تحدياً رئيسياً لنجاحه في تطبيق الوعود التي أطلقت في خطاب القسم والتي كانت بمثابة بارقة أمل للبنانيين بأن تكون قد انطلقت مرحلة جديدة من التغيير الذي طال انتظاره على الصعد؛ السياسيّة والاقتصادية والمعيشيّة.

إلا أن المسألة الأكثر دقة تتمثّل في بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها. وإذا كان من المتعارف عليه أن هذه اللازمة هي من بديهيّات وظائف الدولة السياديّة في أي مكان في العالم، فإنها ليست بهذه البساطة والانسيابيّة في لبنان، خصوصاً أن المطالبة بتسليم سلاح «حزب الله» تأتي في أعقاب حرب مدمرة نالت من الحزب وقدراته العسكرية والبشريّة، وصولاً إلى اغتيال أمينه العام حسن نصر الله، ثم خليفته هاشم صفي الدين.

وإذا كان ثمة من يعتبر أن الحرب الأخيرة أسقطت مفهوم «توازن الردع» الذي لطالما تغنّى الحزب به (ولعل هذا صحيح بالمعنى العسكري)، فإن ذلك لا يلغي أن قدرة لبنان على مواجهة التهديدات والانتهاكات الإسرائيليّة المتواصلة من خلال الدبلوماسيّة وحدها ليس كافياً، والدليل عدم قدرته على دفعها للانسحاب من النقاط الخمس المحتلة.

بين هذا وذاك، لا تبدو الخيارات المتاحة أمام لبنان كثيرة، لكن يبقى الأهم هو الحفاظ على الوحدة الداخليّة؛ لأن مفاعيل سقوطها أشد إيلاماً من الحروب الخارجيّة، رغم ضراوتها، ولأن نتائجها السلبيّة غير قابلة للمحو على مدى سنوات طويلة إلى الأمام.

لقد دار فائض القوة دورته على كل الفئات اللبنانيّة، وكانت النتيجة الإقرار، إنما بأثمان باهظة، أنه ليس كفيلاً بتغيير المعادلات الداخليّة، وأنه في نهاية المطاف، لا مفر من التفاهم بين اللبنانيين، حتى ولو كان بدفع خارجي، للخروج من عنق الزجاجة. من الضروري استخلاص الدروس والعبر مما حصل ويحصل، وإلا الدوران مجدداً في حلقة الشر المدمرة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد