ذهبت إلى العاصمة البحرينية المنامة، مدعواً من الشيخة مي آل خليفة، للحديث عن قضية الوعي باعتبارها القضية الأهم ربما في هذا العصر.
ورغم أن الشيخة مي تولّت حقائب الثقافة، والإعلام، والسياحة، على فترات مختلفة، ورغم أن الحقائب الثلاث بينها اتصال وارتباط، فإن الحقيبة الأولى تظل هي الأقرب إلى وجدانها فيما يبدو دائماً. ولا أعرف ما هو اللقب الأحب إليها من بين كل ما تصدت له في مواقع المسؤولية، لكنني أعتقد أنها تتمنى لو يتطلع إليها الناس بوصفها «خادمة الثقافة» في بلدها، وفيما حول بلدها في الخليج، ثم فيما هو أوسع من ذلك، لا لشيء، إلا لأن الثقافة بطبيعتها شأن إنساني، ومن شأن الإنساني أن يتمدد بين الدول، وأن يقفز فوق الحدود.
لم تعمل سيدة من أجل إحياء تراث جدها كما عملت هي، فحولت بيته في محافظة المُحرّق البحرينية مركزاً ثقافياً يحمل اسم «مركز الشيخ إبراهيم» فلا تنطفئ أنواره، وجعلت من المحرق التي كانت عاصمة ثقافية للبحرين قبل مائة سنة فضاءً ثقافياً مفتوحاً طوال السنة.
كان بيت الدكتور غازي القصيبي من بين ما أسست له من بيوت ثقافية في فضائها الثقافي المفتوح، وكان القصيبي - يرحمه الله - قد عمل سفيراً لخادم الحرمين الشريفين في المنامة، لكنه كان يحنّ بعيداً عن العمل الدبلوماسي إلى بيت عمّه في المحرق، وكان يقضي أغلب وقته فيه، وجاء عليه وقت أوصى بأن يضم البيت متعلقاته الشخصية إذا غادر الدنيا، فتحول البيت من بعده متحفاً يُزار.
أما «منامة القصيبي» فهو الاسم الذي يحمله البيت الذي يعرض نسخاً من مؤلفات الرجل، وفي المقدمة منها رواية «شقة الحرية» التي كتبها حين كان سفيراً لبلاده في لندن، ويعرض أيضاً مكتبته، وعصاه، ومسبحته، وبقية متعلقاته، والأهم أنه يعرض زي الجرسون الذي ارتداه يوماً، وكان يومها وزيراً للعمل في الرياض، ثم مضى يتحرك به في أحد المطاعم وهو يقدم الطعام لرواده، وكان الهدف أن يلفت انتباه جيل الشباب إلى أن العمل ليس من الضروري أن يكون في مكتب، لكنه من الممكن أن يكون عملاً يدوياً يُشرّف صاحبه ولا يعيبه بين الناس.
إنني أذكر اليوم الذي أطلقت فيه الشيخة مي «مبادرة الاستثمار في الثقافة» في 2002، وكانت من خلالها تدعو الحكومة والقطاع الخاص إلى أن يعملا معاً لخدمة الثقافة بمعناها الشامل، وهي مبادرة لا تزال تحتاج إلى أن تنطلق في كل بلد عربي؛ لأن الاستثمار في الثقافة هو استثمار في عقول الناس، ولأن استثماراً كهذا له عائده الإيجابي المؤكد في مستقبل كل بلد يتبنى مثل هذه المبادرة، ويعمل عليها، فلا تغفل عنها عيناه.
وأذكر لها كذلك أنها في 2018 خاطبت المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم، داعيةً إياها إلى أن تضع الفن الإسلامي ضمن ما تضع على جدول رعايتها، ولم تجد المنظمة مانعاً من أن تهتم وترعى، بل وجدت دافعاً إلى الاهتمام بالفن الإسلامي، فخصصت الثامن عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) في كل سنة يوماً لهذا الفن، الذي تعرفه 58 دولة تضمها منظمة التعاون الإسلامي من مقرها في جدة على البحر الأحمر.
هذا كله أظن أنه نوع من «صناعة الوعي» في البحرين، أو هو مساهمة في صناعة الوعي في أقل القليل، ولا مجال للقول إن وصف تشكيل الوعي بأنه: «صناعة» ينطوي على مبالغة؛ لأنه يبدو كذلك مما نراه ونتابعه حولنا، ولن تقوم صناعته إلا على التعليم، وعلى الإعلام، وعلى الثقافة؛ فهذا هو ثلاثي صناعة الوعي بأي معيار.
إن طوفاناً من المعلومات والأخبار يُغرق الناس على مواقع التواصل هذه الأيام، وهو يشتد إغراقاً لهم يوماً بعد يوم، ولو أن مركزاً متخصصاً في استطلاعات الرأي ذهب يسأل الجمهور عن السلاح الأهم في مواجهة مثل هذا الطوفان، فلن يكون غير الوعي الذي لا بديل عن أن يكون أساساً في برنامج عمل كل حكومة بين مواطنيها.
وإذا شئنا تعريفاً دقيقاً لكلمة الوعي، فالمؤتمر الذي انعقد قبل أسابيع في مدينة دندرة في صعيد مصر يتكفل تقديم التعريف المطلوب. كان المؤتمر قد انعقد بكامله ليناقش قضية الوعي من دون سواها، وكان قد وصف الوعي بأنه: «المدخل السليم إلى الإدراك».
إن طوفاناً من المعلومات والأخبار يتدفق على مواقع التواصل على مدار اليوم، ولا قدرة لمن يتعرض له على إدراك الصحيح منه من غير الصحيح، ما لم يكن وعيه بما حوله هو سلاحه الأول في رأسه يواجه به، ويميز.