عوض بن حاسوم الدرمكي
لا أسرع من الهواجس عندما تخلو بنفسك، ولا أثقل من الهموم عندما تفتح صفحات الخيبات، ولا أكسد من سوق الأمنيات التي نطرق أبوابها مراراً ولا ثمّة مُجيب، ولا أكثر تفلّتاً من الأحلام إلا أيام العمر التي تمر عَجِلَة وكأنّ وراءها ملك الموت وهي تهرب منه إليه!
تضيع بي أزقة مدينة قرطبة الضيقة في ليلة شاتية، تتعرّج يمنةً ويسرة وكأنها تهز الذاكرة والوجدان معاً علّ هذه السّحنة العربية تتذكّر أنّ مساراتها ما اختطتها إلا سُحنة ذات القوم، وجدرانها لم تألف في بداياتها وفي فورة أَلَقِها إلا هُم، قبل أن تأتي السيوف والقلوب الباردة لتغتال براءة هذه المدينة ورفيقاتها، ثُم يُدبِّج مُزوِّروهم بأنّها وما جاورها مُدنٌ رومانية وما بها من آثار كادت أن تدرس من قناطر وأسوار ومبانٍ وطرق مرصوفة هي نتاج اليد التي لا تفقه إلا حمل السيف وقتل من تلاقيه، ألم يقل مونتسكيو: «لم يكن الرومان أصحاب تجارة أو صناعة، فكانت الحرب هي وسيلتهم الوحيدة للكسب والثراء؛ لذلك كانت روما في حرب مستمرة وعنيفة» فأنّى لهم أن يبنوا!
لقد كذبوا وصدّقتهم الدنيا، ولم يعرف الناس أنّ الكنعانيين العرب هم من أسسها وأسموها (قريت طيبا) أي القرية الطيبة، والتي تحرّفت لاحقاً لتصبح قرطبة، وعندما أتاها العرب مرة أخرى ألفتهم الأرض ومن عليها سريعاً وبلغت من المجد أوجاً لم تحصل عليه مِن قبل، ولم تحظَ به من بعد، وعندما يصل الأمر إلى تمامه يبدأ الخلل في الظهور شيئاً فشيئاً ولا يُنتَبَهُ لحدوثه مع صخب الدنيا وسَكْرة النعمة!
كانت بداية الخلل مع تناسي الناس لما أقامهم بعد طول قعود وما أعزهم بعد تمادي نسيان وما نصرهم بعد توالي خيبات، ألا وهو دين الله الخالد: الإسلام، فبدأت النعرات القبلية والتحزبات الطائفية والتفاخر المناطقي بالظهور، وخيّم بالتدريج شعور الاهتمام بالجزء دون الكل، وأصبح ما للنفس ضرورة، وما للآخر رفاهية، وإن كان ذاك الآخر أخاً لنا في مكان مختلف، ودخل مع ذاك الشعور «تخدير» مُستجِد للضمير حتى لا نشعر بتأنيبه، وتفنن الكل في الخروج من المشاركة في المصائب باختلاق واقع موازٍ، ألم يحتفل أمراء الطوائف في أغلبهم بسقوط طليطلة وأهلها ذات يوم وراسلوا فرناندو الثالث مُهنئين!!
أمر جهة باب الساباط والذي كان يوصل بممر معلّق بين قصر الإمارة والجامع العظيم، ابتسم بمرارة وأنا في قلب قرطبة الإسلامية حيث الجامع والقصر ودور الوزراء والقادة ونبلاء المدينة وأعيانها وسوقها الكبير وكتاتيب تعليم الصغار ودار الصدقة ومكتبة الحكم المستنصر الكبرى، والتي أصبحت بكذبة كاذب لا يعرف الحياء طريقاً لوجهه (الحي اليهودي!)، كيف ذلك ولم يكن لهم إلا وجود ضئيل في شمال المدينة، حيث باب اليهود، فما الذي جعلهم يسمون القلب العربي المسلم باسمهم؟ والأمر ذاته فعلوه في إشبيلية وسواها من تزوير للتاريخ وتزييف للوعي!
أقف على قنطرة السمح بن مالك.. مِن هنا بعد أن كانت ممراً لجحافل الجيوش المسارعة لكبح شر ممالك الشمال أصبحت تئن حجارة أرضيتها من ثقل الدواب التي تحمل الإتاوات لملوك ذات ممالك الشر، ويتفنن مُرسِلوها في تبرير هذا الخنوع ويكيل المطبلون المديح لهذا الصنيع، ألم يقل أحدهم للمعتمد:
تُهديهم نِعَماً في طيّها نِقَمٌ
سيستضرُّ بها من كان ينتفعُ
وكيف يسلمُ من آفاتهِ جَسَ
إذا توالى عليه الريّ والشبعُ!
فنزفت الممالك العربية كل ما لديها تقريباً من أموال وثروات على أمل أن يمتلئ «كرش» ذاك العدو الطامع، ولكن الضعيف لا يجعل خصمه إلا أكثر طمعاً فيه وأشدّ إذلالاً له.
تترقرق مياه نهر الوادي الكبير مع عصف ريح باردة لا ينفع لصد قَرِّها معطف، تماماً كما عرّت ممالك الأندلس نفسها بخلع دينها شيئاً فشيئاً، فَسلّت بذلك الروح من الجسد، وخلعت عن صدرها درعها الحصينة أملاً في وفاء غادر، واستعاضت بالسيف دنانير ذهبية علّها تكبح جوع ضباع لا تشبع، فخسرت كل شيء: ضياع الأرض وقتل أهلها وتشريد من بقي وتزييف التاريخ!