محمد مفتي
عقب النصر الذي حققته المعارضة السورية بقيادة هيئة تحرير الشام على نظام الأسد وإسقاطها نظام البعث، انتاب العديد من الدول الغربية القلق بشأن مستقبل المنطقة؛ بسبب ارتباط أسماء قادة هذه الفصائل بتنظيمات إرهابية مثل داعش والقاعدة، ولا شك أن أكثر ما يُقلق المجتمع الإقليمي والدولي هو أن تتحول دولة شرق أوسطية لبؤرة متطرفة شبيهة بأفغانستان، وعلى الرغم من أن الأحداث التي عصفت بسوريا مؤخراً شأن داخلي بحت، غير أن وجود بؤر متطرفة داخل منطقة الشرق الأوسط يهدد -ليس فقط دول المنطقة- بل المصالح الغربية أيضاً.
وفي سياق المقارنة بين سوريا وأفغانستان يتضح تماماً أن سوريا تختلف تماماً عن أفغانستان، ولعل مجاورتها لإسرائيل تعمّق من وضعها الاستثنائي دولياً؛ حيث لن تقبل إسرائيل -بدعم من حليفتها الولايات المتحدة- أن تجاورها بؤر طالبانية خشية تهديد أمنها واستقرارها، وهذا الأمر هو ما دفع القضية السورية لأن تتصدر عناوين الأخبار العالمية، وخلال الأيام الماضية كنت أتتبع بعض اللقاءات الصحفية التي أُجريت مع رئيس هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، وقد لفت انتباهي الكمّ الكبير من الأسئلة الاستفزازية -إن صح التعبير- التي تم توجيهها له من قبل الإعلام الغربي.
فبدلاً من أن يركز الصحفيون الغربيون على القضايا الجوهرية التي تتعلق بمستقبل الدولة السورية؛ مثل علاقة سوريا مستقبلاً بالعرب وإسرائيل والحلفاء السابقين مثل إيران وروسيا، لاحظت أنهم يلقون بعض الأسئلة التي تهدف إلى إثارة البلبلة في الشارع السوري، مثل قضايا السماح بالخمور وارتداء المرأة الحجاب، وهل من الممكن أن تصبح سوريا نموذجاً آخر لنظام طالبان في المنطقة، ومن الواضح تماماً أن هذه الأسئلة كانت أشبه بالفخاخ التي يريد الصحفيون من خلالها زيادة الاحتقان في الشارع السوري وربما العربي أيضاً.
في اعتقادي الشخصي أن هناك فروقاً جوهريةً بين طالبان وبين الإدارة الجديدة في سوريا، طالبان هي حركة قبلية تجيد التلون في كل مرحلة؛ فقبل الغزو الأمريكي قبل عقدين كانت تعتمد اعتماداً كلياً على تصدير المخدرات كمورد أساسي لتمويل أنشطة حركتها، وبعد رحيل الأمريكيين 2021 أصر قادة الحركة على وقف تعليم النساء وعدم السماح لهن بالعمل، أما هيئة تحرير الشام فخلال فترة حكمها لإدلب -منذ سنوات- لم تعترض على تعليم النساء أو توظيفهن، بل إن جامعة إدلب التي تشكلت عام 2015 كانت تعمل بكامل طاقتها لتعليم الجنسين على حد سواء، وقد تابعت كغيري احتفالات الشعب السوري، نساءً ورجالاً، عقب سقوط النظام في كل قرى ومدن سوريا التي كانت تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، ولم تتدخل أي جهة لمنع أي طرف من الاحتفال، بعكس طالبان التي ما إنْ عادت للسلطة حتى عادت لأسلوب القمع والإرهاب.
لم تشهد حكومة هيئة تحرير الشام في إدلب وجود شرطة دينية تتعقب النساء وتقوم بشتمهن وضربهن كما يحدث في أفغانستان، ومن هنا فقد بدت لي أسئلة بعض الصحفيين الغربيين كما لو أنهم يقولون إن نظام بشار الأسد الذي جعل سوريا قبراً بحجم الوطن هو نظام ديموقراطي لا لشيء إلا لأنه سمح ببيع الخمر، وإن نظام الأسد الذي هجّر الملايين من السوريين يعد نموذجاً يحتذى به لأنه سمح بتبرج المرأة وعدم ارتدائها الحجاب، ولعل أفضل ما كشف عنه هذا الحوار هو تمتع أحمد الشرع بالفطنة التي مكنته من الرد ببراعة على أسئلة الصحفيين كاشفاً مراميهم المشبوهة، مؤكداً أن هذا النوع من القضايا الاجتماعية يخضع لحكم الدستور الذي ستشارك في صياغته كافة أطياف المجتمع السوري، أما رئيس الدولة فليس عليه سوى الالتزام بالدستور وإنفاذ القانون.
بدا لي وكأن الغرب يريد أن يثير الذعر -ليس في سوريا فحسب- بل داخل الدول المجاورة لها التي عانت من نظام الأسد وحلفائه أيضاً، ومن المؤسف أن يُلقي بعض العملاء الغربيين (ومنهم إعلاميون) بذور الشقاق التي تنخر في نسيج بعض الدول العربية، ومن المؤكد أن الأنظمة والشعوب العربية الإقليمية تريد استقرار سوريا وأن يكون حكمها بيد السوريين لا بيد دول إقليمية أخرى، أما كيف تدار سوريا داخلياً فهذا شأن السوريين أنفسهم وليس من حق أي جهة أن تتدخل فيه، «شريطة» ألا ينتشر فيها التطرف وتصبح البوابة التي تنطلق منها ميليشيات متطرفة تسعى للتغلغل في الدول المجاورة.
يردد الكثيرون أن الوضع في سوريا حتى الآن غير مستقر وأن الإدارة الحالية لم تقدم جديداً، غير أن هذا الأمر منطقي للغاية؛ فتغيير نظام البعث الذي استمر لأكثر من خمسة عقود استشرى خلالها في كافة شرايين مؤسسات الدولة واقتحم بيت كل مواطن، لا يمكن لأي إدارة جديدة أن تغيره ما بين عشية وضحاها، فالقضايا التي تنتظر النظام الجديد عديدة، ولعل أهمها عودة جميع السوريين إلى ديارهم حتى يتم التوافق على صياغة دستور جديد يحافظ على حقوق كافة أطياف الشعب السوري، ونتمنى أن تفي الإدارة الجديدة بسوريا بوعودها حتى لا تفقد دعم الدول المتعاطفة معها.