أحمد محمد الشحي
في خضم ما تشهده بعض الدول والمجتمعات من أحداث داخلية معقدة، ينبري أصحاب الفتن كعادتهم ليجعلوا من أنفسهم أدوات هدامة لاستكمال مشاريع الهدم والتدمير للأوطان، مستغلين تلك الظروف لخدمة أهدافهم وأجنداتهم الفوضوية، وفي سبيل ذلك يطلقون خطابات خطيرة تهدف إلى استغلال مجريات الأحداث للتحريض ضد الدول العربية وزعزعة أمنها واستقرارها والتهجم عليها والنيل منها، واستغلال معاناة الشعوب والمتاجرة بها لتحقيق مكاسب شخصية وخدمة أجندات خارجية، دون أن يعبأوا من قريب أو بعيد بما تجرّه تصرفاتهم الرعناء من ويلات على المجتمعات.
وهم في سبيل ذلك يستخدمون مختلف الشعارات المغرضة، بما في ذلك التحريض على ما سمي زوراً بالربيع العربي، هذه الدعوة الخبيثة التي تحمل في طياتها أسس الخراب والدمار، فقد أثبت الواقع الذي لا شك فيه لكل عاقل ذي بصيرة أن هذه الدعوة لم تجلب إلى المجتمعات التي انكوت بنيرانها أي خير، بل ألقتها في أتون مشتعل من الانقسام والتفكك والصراعات الداخلية المريرة، التي أدت إلى ضعف الدول وتبديد اقتصادها وجعلها مطمعاً للتدخلات الخارجية، فضلاً عما نتج عن هذه الصراعات والفوضى من إزهاق أرواح الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وتشريد ملايين الأبرياء من ديارهم، وتفشي الخوف والذعر بين الناس، وانتشار الفقر والمعاناة الشاملة، وتغذية التطرف والإرهاب.
إن من يدعون إلى التحريض يبدو وكأنهم فقدوا عقولهم وأبصارهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى؛ لأنهم في الحقيقة لا يبصرون أبداً حجم الدمار الذي لحق بالدول التي عانت من هذه الفوضى، ففي الوقت الذي سجل التاريخ بمداد أسود قاتم ما جرى من إراقة الدماء وتدمير البنى التحتية والمعاناة المريرة التي حصلت لملايين البشر نجد المحرضين في المقابل يتعطشون للمزيد من الفوضى ويتحدثون عن إسقاط الحكومات وتغيير الأنظمة وكأنهم يعيشون في عالم آخر، أو كأنهم فعلياً بلا عقول ولا قلوب، غير مبالين إطلاقاً بعواقب خطاباتهم، ما يكشف عن أمراض فكرية ونفسية متغلغلة فيهم حتى النخاع، فهم لا يتعلمون من دروس الماضي أي شيء، ولا يدركون أن التغيير الحقيقي المثمر لا يمكن أن يأتي من خلال الفوضى، بل عبر تكاتف وتكامل وتعاون بين مختلف شرائح المجتمعات بما يضمن استقرار الدول وتحقيق تطلعات شعوبها.
ومع ظهور هذه الأصوات المحرضة النشاز التي تدعو للفتن يصبح من الضروري تكريس الوعي بخطورتها وخطورة ما تحمله من عواقب وخيمة، واليوم، والحمد لله، هناك وعي كبير حول ذلك، وخاصة مع ما أفرزته تلك الدعاوى وللأسف الشديد من ثمار هي أشد من الحنظل في مرارتها، ولذلك فحُقَّ لكل عاقل أن يتساءل مستعجباً: أما لهؤلاء المحرضين من عقول يتفكرون بها؟ ألم يتأملوا فيما نتج عن الفوضى ودعوات التحريض ضد الدول والمجتمعات من كوارث وويلات؟ ألم يبصروا ما أدت إليه من فتح أبواب الدمار والخراب والتقتيل والتشريد والمعاناة الأليمة التي أصبحت خالدة في ذاكرة أجيال وأجيال؟ إن الإجابة عن هذه التساؤلات واضحة لكل ذي عقل وبصيرة، ينظر للأمور بعين التجرد والموضوعية، ولا يتأثر بأي موجهات أيديولوجية تعميه عن رؤية الحقيقة كما هي.
إن حماية الأوطان من دعاوى الفوضى والتحريض واجب محتم ومسؤولية مشتركة، تقتضي من الجميع الوقوف صفاً واحداً في وجوه المحرضين، وهو ما يضع مسؤولية على مختلف الجهات والمؤسسات، وخاصة الإعلامية منها والدينية، وعلى الكتّاب والمثقفين وعموم الأفراد أن يسهموا في تعزيز الوحدة الوطنية، ويعملوا على تكريس مقومات التلاحم والتماسك، ومن واجب كل فرد أن يكون صخرة صلبة تتكسر عليه أي مؤامرة مغرضة، وخاصة تلك التي تتخفى تحت شعارات براقة زائفة.
إن العاقل يدرك حقيقة واضحة، هي أن الطريق إلى المستقبل لا يمكن أن يُبنى على الفوضى والتحريض، وأن التنمية والازدهار والحياة الكريمة لا تقوم إلا على أرضية صلبة من الاستقرار وتحت مظلة واسعة فسيحة من الأمن التي تظل الجميع، وأن المحرضين إنما يجنون على أنفسهم، وأن الربيع المثمر الحقيقي إنما هو بالمحافظة على الأوطان وتعزيز استقرارها والمثابرة في تنميتها وازدهارها.