: آخر تحديث

التنمية الحقيقية والتعليم السليم

14
8
7

حول طاولة عشاء أقامها دبلوماسي أوروبي على شرف أحد الصحفيين العرب، ولأن الحديث كان دوماً وما يزال عن الشرق الأوسط، تساءل الدبلوماسي الأوروبي المعتَّق بالخبرة الطويلة عن سر فشل مشاريع التنمية التي تم إنفاق مليارات الدولارات فيها من التمويلات الدولية على إنماء دول وشعوب الشرق الأوسط الأقل حظاً. سؤاله كان خارج إطار الحوار «الرسمي»، وكان مفاجئاً بالنسبة لمُحاوره.

بعد نقاش قصير، وإن كان مكثفاً للغاية، خلص الدبلوماسي الأوروبي إلى أن كل تلك الأموال راحت هدراً بسبب عدم وجود «حوْكمة» في العديد من هذه البلدان، أي جرّاء افتقارها إلى نظام الحكم الرشيد في إدارتها.. لذا كانت الأهداف على المستوى «النظري» سامية ونبيلة، لكن عملية ضخ الأموال وإدارتها، ومن يديرون المشروعات.. كل ذلك هو ما يمثل مكمن الخلل.

ولعل أكبر تقصير حدث كان في منظومة التعليم، إذ تم ترك هذه المنظومة برمتها للخطاب الديماغوجي والشعبوي الذي قام بكل ما يملك من حضور عبر حشو الدجل والشعوذة في التعليم، لننتهي بأجيال لا معرفة حقيقية عندها أكثر من تراثيات وتاريخ ووطنيات لا تشبع ولا تصد قهر الفقر والبؤس.

هذه الأجيال كبرت وتوزعت في دنياها بين موظفين ومعلمين ومهنيين وأصحاب قرار، وكل ما يملكونه من معرفة كان دوماً أدواتهم في مجال أعمالهم، للأسف كانت كل تلك المعرفة خواء لا معنى له.

في هذا الفراغ المعرفي، تنشأ التُّربة الخصبة لكل قوى التطرف والشعوذة باسم «الدين»، ويصبح سدنة «الخرافة» نخبة مجتمعية تقود وتأمر ولها قدرتها على تحريك الرأي العام بل وتشكيل اتجاهاته.

ومن هنا حدث أن فشلت كل مشاريع التنمية في البلدان المشار إليها، وضاعت في ممرات الفنادق المكيفة ليتم هدر الأموال العالمية الطائلة على مشاريع سابقة لأوانها، من قبيل «تفعيل الديمقراطية» و«تمكين المرأة» على سبيل المثال لا الحصر!

والواقع أن تمكين المرأة عملية أكثر من سهلة من خلال التركيز على تعليمها وتزويدها بالمعارف والعلوم، وليس من خلال إقحامها في معارك «نسوية» لا يحتاجها عالمنا العربي في واقع الأمر.

نعم، المرأة مضطهدة ومعنَّفة في كثير من جيوب مجتمعاتنا العربية، لكن تمكينها لا يكون باستيراد حركات وُجدت في سياق جغرافي وتاريخي مغاير، وبموجب مقتضياته الخاصة، لا في سياقنا المتخم بالأمية والتشدد.. لذا كان الأجدى تمكين المرأة -كما الرجل- منذ الطفولة من خلال العلوم والتعليم الصحي السليم الذي يجعل النشء يكبر على معرفة إنسانيته وحقوقه، كما واجباته أيضاً.

واليوم، فإن معظم الأزمات والحروب في المنطقة أساسها الجهل المعرفي، ومَن يحملون السلاح ويمارسون العنفَ ويتعصبون لطائفة أو معتقد هم ضحايا هذا الجهل المعرفي، والذي كان يمكن تجاوزه بسهولة منذ عقود لو كانت مشاريع التنمية سليمة وتسير بمنظومة التعليم في الاتجاه السليم الخالي من شوائب الدجل والشعوذة.

ولعل الوقت لم يَفت بعد، ربما في أي تسويات قادمة في المنطقة لوقف الحروب فيها، علينا أن نفكر في مشاريع عربية تكاملية ومتشابكة في رفع سوية التعليم ومقاومة قوى الظلام والعتمة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد