لم يكن دارجاً في لغتنا العربية استخدام مصطلحات مأخوذة من الثقافة الغربية، لكننا سنعرف أن الأزهري الشيخ رفاعة الطهطاوي مؤلف الكتاب الشهير: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، هو أول من استخدم مصطلحات أو تعبيرات غربية في الكتابة العربية، ومنها كلمة «كونسرفتوار» التي كان يكتبها بالواو: «كونسووتوار»، وكلمة «ميثولوجيا»، علم دراسة الأساطير، كما يفيدنا الكاتب والناقد الراحل رجاء النقّاش في مقالٍ كتبه في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، وحواه كتابه «أدباء ومواقف».
وعن مذكرات الطهطاوي حول المدارس والمعاهد في باريس، ينقل النقّاش التالي: «هناك ما يسمى «أكدمية» (وهي المفردة التي صرنا نكتبها اليوم: أكاديمية)، ومنها ما يسمى مجمعاً أو مجلساً، والأنسطيوت (ويقصد انستيوت) عندهم اسم عام يشتمل على جميع أنواع الأكدميات (ويقصد الأكاديميات) أي المجالس الخمس وهي: أكدمية اللغة الفرنساوية، وأكدمية العلوم الأدبية ومعرفة الأخبار، وأكدمية العلوم الطبيعية والهندسية، وأكدمية الصنائع الظريفة (أي الفنون الجميلة)، وأكدمية الفلسفة».
يضيف الطهطاوي: «وهناك مدارس سلطانية (أي ملكية)، تسمى الكوليج، وهي مدارس يتعلم فيها الإنسان العلوم المهمة التي تكون وسائل في الأمور المقصودة منها، وهي خمسة كوليجات».
بالنسبة للطهطاوي ونظرائه من أهل المعرفة، لم يكن الأمر ينحصر في التعريف بمفردات غربية وشرح محتواها أو حمولتها الدلالية، وإنما في السعي لإقامة مؤسسات تربوية مشابهة لتلك التي رآها في فرنسا فترة إقامته فيها، ضمن أول بعثة علمية أوفدها محمد علي باشا إلى هناك لتلقي المعارف الحديثة ونقلها إلى مصر. وكان الطهطاوي هو المثال الناجح لما أراد محمد علي باشا من أفراد بعثته تعلّمه ونقله، فقد كان، أي الطهطاوي، «يعيش في ظل إحساسٍ كبير بأن مصر لا بد أن تعرف كل شيء بأسرع وقت وأعمق صورة»، كما كتب رجاء النقّاش في مقاله، رغم أنه، وبعد السنوات الخمس التي قضاها في باريس، لم يخلع عمامته ولم يلبس قبعة. لم يعد بمظهرٍ جديد، إنما بعقلٍ جديد.
ليس رفاعة الطهطاوي هو الأزهري الوحيد الذي قصد باريس وعاد منها بعقلٍ جديد. ثمّة أزهري آخر من جيلٍ تالٍ قصد باريس أيضاً وعاد منها بعقلٍ جديد، هو طه حسين، الذي قدّم نموذجاً آخر مهماً في المثاقفة مع الآخر الغربي، ولم يكن مهووساً ب «حشر» المصطلحات بأبجديات الغرب، في مقالاته ودراساته، كما يفعل كثير من أكاديميي اليوم وكتّابه، وإنما بتمثّل مناهج البحث الحديثة التي اطلع عليها فترة دراسته هناك، وبينها منهج ديكارت، ومحاولة تطبيقها بشكلٍ مُبدع وخلّاق في دراساته التي وجهها، في المقام الأول، للنهوض بالتعليم والثقافة في مصر والعالم العربي، وقراءة تراثنا بمنظورٍ جديد.