: آخر تحديث

التقليد والحداثة في اللغة العربية

15
12
14
مواضيع ذات صلة

حضرت مؤتمرا دوليا حول تدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها في جامعة iulm الإيطالية الشهيرة بباعها الطويل في الدراسات اللغوية والإعلامية، وذلك في مدينة ميلانو. وكان المؤتمر فرصة ذهبية بالنسبة لي للقاء نخبة من علماء وأساتذة اللغة العربية من الشرق والغرب الذين التأموا لمناقشة سبل تدريس لسان الضاد.

ورغم أن التركيز كان على تدريس العربية في بيئات غير عربية، أي غير ناطقة بالعربية، بيد أن المداولات التي دارت في أروقة المؤتمر هي من الأهمية بمكان حتى للدول والشعوب الناطقة بها. أهمية المؤتمر تنبع من النقاش الأكاديمي والعلمي الذي دار في أروقته والأوراق التي ألقيت فيه. شخصيا أراها ذات أهمية بالغة ليس لموضوع المؤتمر فحسب، بل لمجمل الشؤون المتعلقة باللغة العربية وعلى الخصوص الصراع الدائر بين التقليد والحداثة في مسائل تخص النحو والصرف.

وكان المؤتمر، الذي انعقد في منتصف هذا الشهر أشبه ما يكون بمد وجزر بين علماء ومختصين متشبثين بالتقليد أو غير راغبين في مغادرة ساحته، وآخرين بودهم الاتكاء على المفاهيم والفلسفات العصرية التي تعنى بشؤون اللغة بصورة عامة.

وقبل سفري إلى المؤتمر، كنت حقا محظوظا حيث استمعت إلى كلمة مهيبة من العلامة الدكتور إميل يعقوب حول اللغة العربية ضمن مؤتمر عقده قسم اللغة العربية في جامعة الشارقة، شرح فيها بالتفصيل المخاطر المحدقة بلسان الضاد.

والدكتور يعقوب ـ إن جاز لنا التعبير ـ عملاق من عمالقة لسان الضاد في العصر الحديث. تكفيه الموسوعات العديدة التي ألفها وهي تربو على عشر وأهمها في نظري "المعجم الوافي في النحو والصرف والإعراب" و"الممنوع من الصرف: بين مذاهب النحاة والواقع اللغوي". وأعد قرائي أن أجعل من كلمته المعبرة التي ألقاها في جامعة الشارقة موضوعا لمقال مقبل.

وكانت الورقة التي ألقيتها "معاصرة" بمعنى أنها تناولت واقع اللغة العربية من وجهة النظريات اللغوية الحديثة، فيها استقيت كثيرا من مؤلف لي وكذلك ملازم خاصة أدرس فيها الطلاب العرب الكتابة لوسائل الإعلام عند مقدمي إلى الشرق الأوسط كأستاذ زائر، وعرجت فيها على ما تعلمته من قراءتي للدكتور يعقوب.

وقد لا أبعد عن الواقع إن قلت إن العرض الذي قدمته في اليوم الأول من المؤتمر أثار كثيرا من الشجون والأسئلة والاستفسارات والقبول والرفض، وهذه من وجهة نظري ظاهرة صحية وإيجابية في مؤتمر عالمي على هذا المستوى. ولأن الوقت المخصص لكل ورقة محدد، لم يتسن لي الرد على كل ما أثير، ومن ثم لم يتمكن كل من كان في ذهنه سؤال طرحه.

ولكن قبل الولوج في صراع التقليد والحداثة في تدريس العربية ونحوها وصرفها، أرى أن العصر هذا، يبدو لي، أنه عصر لسان الضاد، إن أخذنا رغبة تعلمها من قبل غير الناطقين بها.

لقد أكد المختصون القادمون من شتى بقاع العالم من الأحداث والتجارب السابقة، أن عصر العربية كلغة عالمية قد آذن، وأن هناك أعدادا غفيرة من الطلاب تسعى إلى تعلمها في أغلب الجامعات الغربية.

ولضيق المساحة الممنوحة لنا لكتابة مقالنا الأسبوعي هذا، سأختصر صراع الحداثة والتقليد من خلال إيراد أمثلة محددة، أسعى فيها إلى إدخال علوم اللغة الحديثة في تدريس العربية، ومؤكدا في الوقت ذاته أن استنادنا إليها لن يغير حرفا ولا كلمة من التراث والتقليد وما تركه لنا أعمدة النحو العربي في الأزمنة الغابرة، على العكس أن كثيرا من هذه المفاهيم تعكس ما كان يدور في أروقة المدرستين الكبيرتين في البصرة والكوفة وبين أعلام النحو العربي في حينه.

لنأخذ مثلا تدريس الطلاب كتابة العناوين الصحافية. هناك قاعدة اشتقاقية أراها ذهبية، وهي واحدة من القواعد الاشتقاقية الأخرى التي يتبعها الصحافيون العرب في كتابة عناوينهم. حسب هذه القاعدة العنوان يبدأ بالاسم ومن ثم الفعل "مضارع" ومن ثم اسم آخر "إن كان الفعل متعديا" وبعدها ظرف الزمان والمكان، وعلى الشاكلة هذه: من/فاعل + فعل ماذا/فعل مضارع في الأغلب + لمن/مفعول به + "الظرف/ مكان وقوع الحدث/زمن وقوع الحدث".

روسيا توقف شحنات النفط من شمال الصين وإليه أو على شاكلة: من/ الفاعل + فعل ماذا/فعل مضارع غالبا+ جار ومجرور أو ظرف زمان أو مكان زيد يصل إلى لندن صباح اليوم

قواعد لغوية اشتقاقية generative rules مثل هذه تساعد الطلاب على اشتقاق جمل "عناوين" كثيرة مثل هذه وتساعدهم على تعلم الكتابة بالعربية. أما الصراع حول إن كان "زيد" في المثال الثاني مبتدأ أم فاعل، فهذا لعمري صراع عقيم، أخذ من الجهد والوقت ما لا يمكن حسابه والكوفة والبصرة تتصارعان حوله.

نحن بحاجة إلى تحسينات كثيرة، وإلى تبسيط للنحو العربي لكيلا ينفر منه التلاميذ، كما ينصحنا الأستاذ يعقوب.

زيد في "يصل زيد" فاعل، ولكن ماذا عن "مات زيد" هل زيد فاعل؟

علينا أن نبحث عن وظيفة الفعل في نطاق جملته وعندها نقرر.

وهل الخروف في"سلخ الخروف" وظيفيا نائب فاعل حقا. وهل الإنسان في قوله تعالى "خلق الإنسان من علق" نائب فاعل؟

وهل نبحث في المفردات أو ندرسها وكأنها ابتدعت أو سكت من عدم في اللغة العربية؟ من النادر أن يكون هناك شيء من العدم في العربية، التي هي لغة اشتقاقية بامتياز، ولهذا لا نفع من تدريس المفردات وحدها، من دون التحكيم إلى الجذر الذي اشتقت منه ودراسة الاستخدامات الوظيفية للفعل الأصلي الذي يساعدنا على اشتقاق المفردات.

هذه الملاحظات لا تقلل أبدا من شأن المؤتمر المهم هذا، علما أن الجامعة الكاثوليكية في ميلانو ستنظم أكبر تظاهرة علمية أكاديمية في الأشهر المقبلة موضوعها أيضا تدريس العربية لغير الناطقين بها.

ومن هنا ومن صفحات هذه الصحيفة أحث أصحاب الشأن في الدول العربية لتقديم دعم مادي ومعنوي لتدريس اللغة العربية. اشتكى كثير في المؤتمر أن تدريس لغات مثل الصينية والألمانية وغيرها يلقى دعما كبيرا من الدول الناطقة بها، إلا أن تدريس العربية لا دعم يذكر له.

أخيرا، بدا لي أن الجامعات في الغرب حتى في الدول الناطقة بالعربية لا تنسيق يذكر بينها لوضع خطط مدروسة بعناية في هذا المضمار، وأرى أن الأوان قد حان لكي يشمر الكل عن سواعدهم لتدريس لسان الضاد بصورة منسقة ومدروسة بعناية فائقة وعلى أوسع نطاق.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد