تعيش تونس على وقع الانتخابات الرئاسية المرتقبة في أراضيها، في السادس من أكتوبر/تشرين الأول، لتحديد هوية ساكن قصر قرطاج للسنوات الخمس المقبلة، وسط مناخ سياسي شديد الاستقطاب، في ظل اتهامات من منتقدين للرئيس قيس سعيّد - المرشح لفترة رئاسية ثانية – بتبني سياسات تهدد حرية التعبير وتقوض عملية التحول الديمقراطي في البلاد واستخدام القضاء لملاحقة المعارضين السياسيين، وهو ما يرد عليه مؤيدو سعيّد بالتأكيد على أن الحريات مُصانة، وأن لا دوافع سياسية للملاحقات القضائية الحالية لبعض معارضي الرئيس.
ويقول معارضو سعيّد وبعض المراقبين، إن حظوظ الرئيس التونسي الحالي تبدو أوفر للفوز بالانتخابات، التي يتنافس فيها مع النائب السابق في البرلمان زهير المغزاوي، والعياشي زمَال، السياسي الليبرالي، الذي حُكم عليه في قضيتين بالسجن، لمدة تصل إلى أكثر من 14 عاماً، بتهمة "تزوير" التزكيات الخاصة بترشحه، وذلك في وقت يؤكد فيه محاميه أنه لا يزال معنياً بخوض العملية الانتخابية، نافياً التهم الموجهة لموكله.
كما يشير المنتقدون إلى ما يعتبرونه إقصاء ثلاثة مرشحين بارزين، بدعوى عدم استيفائهم لشروط الترشح، رغم قبول طعونهم من جانب المحكمة الإدارية.
وبينما يرد أنصار الرئيس على هذه الانتقادات، بالتأكيد على أن الانتخابات ستكون نزيهة، يعتبر معارضون أنها تفتقر للحياد، مشيرين في هذا الصدد إلى إدخال تعديلات على القانون الانتخابي خلال فترة الحملة الانتخابية، ومنح السلطة في الفصل في النزاعات المتعلقة بالانتخابات، للقضاء العدلي متمثلاً في محكمة الاستئناف، بدلاً من القضاء الإداري، وهو ما قال المنتقدون إنه يعمّق المخاوف من إمكانية حدوث تزوير محتمل.
ومن بين القوى السياسية التي تعبر علانية عن هذه المخاوف، حركة النهضة التي أصدرت بياناً الخميس، قالت فيه، كان من الممكن للانتخابات الرئاسية أن تمثل "فرصة للشعب التونسي ليمارس سيادته ويعبّر عن إرادته، إلّا أنّ المؤشرات المبكرة أكّدت عدم نزاهة المسار الانتخابي وفقدانه الشفافية" مشيرة إلى ما اعتبرته "انتهاكات قانونية وسياسية خطيرة، توشك أن تزجّ بالبلاد في أزمة شرعية لم تشهدها منذ ثورة الحرية والكرامة"، وذلك في إشارة إلى ثورة عام 2011، التي أطاحت بنظام الرئيس زين العابدين بن علي.
اتهم بيان النهضة السلطات التونسية كذلك بالعمل على "إفساد العملية الانتخابية بأكملها، في نزوع تسلطي واستبدادي.. عبر سيل من الإجراءات والمراسيم التي تم فرضها من أجل تأبيد بقاء الرئيس المنتهية ولايته".
ترافقت هذه الاتهامات الحادة مع دعوة أحزاب سياسية، من بينها العمال والتكتل والاشتراكي والقطب إلى مقاطعة الانتخابات، إذ اعتبرت تلك القوى أنّ "المناخ السياسي والأجواء العامة، منذ الانقلاب على الدستور والمؤسسات هي حالة عبث متواصل، ما يجعل شرعية الانتخابات مضروبة سياسياً وأخلاقياً".
ويستخدم معارضو الرئيس التونسي مصطلح "الانقلاب"، للإشارة إلى إجراءات اتخذها سعيّد في 25 يوليو/تموز 2021، شملت تعليق عمل البرلمان وإقالة الحكومة وتمهيد الطريق نحو وضع دستور جديد، أُجري عليه استفتاء شعبي في وقت لاحق.
وفي حين يقول المعارضون إن هذه الإجراءات مثلت "ردة" عن الديمقراطية، يشدد أنصار الرئيس التونسي، على أنها استهدفت "إنقاذ" الدولة من التفكك، ووضع حد لـ "فوضى سياسية"، استمرت لنحو عقد من الزمان، بعد الإطاحة بنظام بن علي.
وفي وقت أعلن فيه حزب التيار الديمقراطي عدم اعترافه بشرعية الانتخابات المرتقبة وبالنتائج التي ستفرزها، معتبراً أنها "لن تكون معبّرة بأي حال من الأحوال عن إرادة الشعب التونسي"، وهو موقف تبناه كذلك الحزب الدستوري الحر والحزب الجمهوري، ودعا حزبا "آفاق تونس" و"حركة حق" التونسيان، إلى التوجه نحو صناديق الاقتراع، رغم ما وصفاه بـ"خروقات طالت المسار الانتخابي".
في الإطار ذاته، قالت منظمات حقوقية تونسية، إن المناخ الانتخابي غير ملائم لإجراء الانتخابات، وهو ما جاء في بيان لمنظمة "أنا يقظ"، الرقابية المعنية بمكافحة الفساد المالي والإداري وتدعيم الشفافية، أشارت فيه إلى أنّ "المواصلة في هذا المسار الانتخابي الذي يخرق فيه القانون، ولا تطبّق فيه الأحكام القضائية، قد يفضي إلى انتخابات فاقدة للشرعية".
كما نشرت شبكة "مراقبون" المختصة بمراقبة الانتخابات في تونس، بياناً مفاده بأنها لن تتمكن من مراقبة الانتخابات الرئاسية، بسبب ما قالت إنه رفض الهيئة العليا المستقلة للانتخابات منحها الاعتمادات اللازمة لذلك.
واعتبرت الشبكة في بيان نشرته على حساباتها الرسمية على وسائل التواصل الاجتماعي، أن "مثل هذه الممارسات والتضييقات تضر بشكل مباشر بشفافية العملية الانتخابية، التي تُعتبر أحد أهم ضمانات العملية الديمقراطية".
وبدورها، قالت منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية الدولية/ في بيان، إن "السلطات التونسية قوّضت نزاهة انتخابات السادس من أكتوبر/تشرين أول 2024 الرئاسية عبر تعديل قانون الانتخابات قبل إجرائها بأيام"، متهمة السلطات بأنها استبعدت "مرشحين معارضين، وسجنت آخرين، وأخذت إجراءات تعسفية بحق المنافسين السياسيين، ووسائل الإعلام المستقلة، والمجتمع المدني".
وقال نائب مديرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة، بسام خواجا، إن السلطات التونسية تضع "العراقيل بشكل ممنهج أمام إجراء انتخابات عادلة، وأمام قدرة المرشحين المنافسين على القيام بحملة انتخابية حرة".
ويقول معارضون، إن الملاحقات الأمنية في تونس شملت ما يزيد عن 40 من المعارضين السياسيين منذ أكثر من سنة، في إطار ما يُعرف بملف "التآمر على أمن الدولة". بيانات أخرى نشرتها جبهة الخلاص الوطني المعارضة، قالت إن عدد هؤلاء يفوق المئة، بما يشمل ناشطين، ومواطنين أحيلوا للتحقيق على خلفية مرسوم يحمل رقم 54، ويخص الجرائم الإلكترونية.
وتقول الناشطة السياسية شيماء عيسى، التي خاضت تجربة السجن لعدة أشهر على خلفية مواقفها المعارضة لسياسات الرئيس سعيّد، إن المناخ الانتخابي غير ملائم، لـ "إجراء انتخابات نزيهة وشفافة"، وإنه "لا يوجد مشهد انتخابي، وهذا المشهد معطوب ومشلول ومتحكم فيه من قبل السلطة التنفيذية والسلطة القائمة، بدليل أن أحكام المحكمة الإدارية لا تُنفذ".
واتهمت الناشطة التونسية هيئة الانتخابات بأنها تعطل "نفاذ المواطنين إلى الترشح وتعطل وجود أسمائهم في القائمة، حيث أنصفت المحكمة (الإدارية) ثلاثة مترشحين، وهيئة الانتخابات التي تشتغل بالوكالة عند السلطة عطلت هذا ومنعت المرشحين من حق الترشح".
وأضافت شيماء عيسى بالقول "لهذا لا يوجد مشهد انتخابي بثلاثة مرشحين أحدهم في سدّة الحكم وحملته متواصلة، ومرشح آخر لا نستطيع أن نقول عن حملته إنها حملة ويتعرض إلى تضييقات، ومرشح ثالث وهو العياشي زمّال موجود في السجن وتلاحقه جرائم انتخابية".
كما يشير معارضو الرئيس التونسي إلى ما يعتبرونه تضييقاً على الصحفيين في ممارسة عملهم، وهو ما تقوله الصحفية أميرة محمد التي تصف الفترة الحالية بأنها "أخطر فترة تعيشها تونس منذ الاستقلال، حيث لا يحاكم الصحفيون على أساس القوانين المنظمة لمهنة الصحافة، إنما بقوانين أخرى لا تتماشى وطبيعة العمل الصحفي كقانون الإرهاب والمجلة الجزائية ومجلة الإجراءات العسكرية. فهنالك ما يفوق 40 صحفياً ملاحقاً على خلفية أعمالهم الصحفية".
وقالت الصحفية التونسية إن هذا الأمر "جعل الصحفيين في حالة خوف وانزواء إما بطريقة ذاتية أو من قبل رؤساء التحرير ما أجبرهم على عدم الخوض في عدة مواضيع أو ممنوع الحديث فيها خوفاً من الملاحقات القضائية".
وأضافت: "لو أن هذه الانتخابات تدور في مناخ سليم يضمن مبدأ تكافؤ الفرص وفيه حرية الاختيار الحقيقية للشعب التونسي سيكون هنالك أمل، لكن هذا الأمل ضعيف جداً" مستدركة بالقول " إلا أنه هناك أمل وقد يفاجئنا الشعب التونسي كعادته بخيار قد يكرس مبدأ الديمقراطية ويكرس دولة القانون والمؤسسات ودولة تُحترم فيها الحقوق والحريات وتُحترم فيها حرية التعبير والصحافة".
في المقابل، ينفي مؤيدو الرئيس التونسي تماماً كل هذه الانتقادات، وكذلك الاتهامات التي يوجهها المعارضون للسلطات، بالسعي لإخلاء الساحة من الخصوم السياسيين قبيل الانتخابات من خلال الملاحقات القضائية، أو محاولة التضييق على الحريات الصحفية وحرية التعبير، مؤكدين أن هناك فارق بين الحرية والفوضى.
وفي هذا السياق، قال أمين عام حزب المسار محمود بن مبروك لبي بي سي إن: "هناك خلطاً بين الحرية وبين ما يعتبره المعارضون حرية، وإن هناك تجاوزاً لتلك الحرية عبر السب والشتم والتظاهر من دون ترخيص، والمس بالعرض والشرف والسمعة".
وأشار بن مبروك إلى أن معارضي الرئيس التونسي "اليوم يتظاهرون من دون منع، وتسمح لهم السلطات بذلك، وتنظم تظاهرهم كل يوم أحد أمام المسرح البلدي في العاصمة تونس من دون معارضة".
واعتبر أمين عام حزب المسار، أنه يرى أن هناك "تضخيماً للمسألة، ومحاولة لاستدراج الرأي العام الدولي وإقحامه في المشاكل الداخلية لتونس"، مشدداً على أن الرئيس التونسي "كما هو معروف يرفض التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي، ويعتبر السيادة الوطنية خطاً أحمر".
وقال بن مبروك إن هناك محاولة "للعب على تلك النقطة، وإثارة الرأي العام الدولي، والضغط على تونس من الجهات الأجنبية وخاصة الأوروبية والأمريكية، من أجل تركيع الرئيس الحالي وتركيع السلطة للتعامل معهم، بهدف تمكين تونس من الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي".
أما الرئيس التونسي نفسه فقد وجه كلمة مساء الخميس، دعا فيها مواطنيه إلى الذهاب إلى مراكز الاقتراع والتصويت بكثافة يوم الأحد، بهدف التصدي لما سماه "المحاولات اليائسة البائسة لزرع بذور الفتنة وبث الإحباط والاستسلام".
وخاطب سعيّد التونسيين في كلمته قائلاً "لقد تصديتم بكل شجاعة، لكل الذين لا همّ لهم سوى الرجوع إلى الوراء، وخضنا معاً حرب استنزاف طويلة ضدّ قوى الردّة والعمالة في الداخل والمرتبطة بدورها بدوائر خارجية".
وشدد على أن "الشعب هو من يملك القرار وخياراته ستكون محددة لمستقبل البلاد"، قائلاً إن من اعتبر أنهم "يتباكون على الحريات، هم أنفسهم الذين يتلقون الحماية من قوات الأمن". وأشار إلى ما وصفه بـ "مظاهر الفساد والاحتكار" التي تعاني منها تونس، بحسب تعبيره.
ودعا سعيّد في كلمته إلى "العبور نحو التحرير الكامل والتطهير الشامل"، مشدداً على أهمية الانتخابات الرئاسية الوشيكة في استكمال الثورة التي بدأت منذ أكثر من عقد.
معاناة اقتصادية ومعيشية
وتُجرى الانتخابات الرئاسية التي دُعي للتصويت فيها نحو 10 ملايين ناخب تونسي، في خضم وضع اقتصادي يوصف بالصعب، مع تدني القدرة الشرائية للتونسيين، حيث تبدو الأسواق، التي كانت فيما مضى مكتظة بالزبائن، خالية من مرتاديها.
ويُلحظ أن الإقبال في السوق المركزية للعاصمة يشهد ضعفاً، وحركة العرض والطلب متراجعة، في وقت تعيش فيه البلاد أزمة اقتصادية، يصفها الخبراء بالخانقة، إذ تخطت نسبة البطالة حاجز الـ 16في المئة، فيما بلغت نسبة التضخم حوالي 7 في المئة.
يشكو منصف، وهو أحد التجار في هذه السوق، من تردي أوضاع تجارته، بسبب ارتفاع أسعار المنتجات، وعدم وجود بعضها، مشيرا إلى أن الجفاف الذي شهدته تونس خلال السنوات القليلة الماضية، أسهم في نقص الإنتاج الزراعي، ما قاد إلى نقص كميات الخضروات والفواكه في الأسواق، وارتفاع أسعار ما هو متوفر منها.
وأكد هذا الرجل أن عدد زبائنه كان يُقدر بالمئات، في حين غدا الآن لا يتردد عليه منهم سوى العشرات.
كما يواجه المواطنون في تونس، صعوبات جمّة، في تلبية احتياجاتهم الأساسية، بسبب الارتفاع المطرد للأسعار، وشح العديد من المواد الأساسية في السوق.
ويقول جل من سألناهم من المواطنين، إنهم باتوا لا يستطيعون تلبية غالبية متطلباتهم وسداد فواتيرهم، مؤكدين أن التضخم الحالي، زاد وضعهم الاجتماعي تعقيداً.
غير أن شقاً آخر من التونسيين يرون أن المواد الأساسية متوفرة، ويعتبرون الحديث عن وجود نقص فيها مجرد تشويش على الانتخابات، "هدفه خدمة مصالح أجنبية" بحسب قولهم.