: آخر تحديث

قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بالإعلام السوري

3
2
3

عرف العرب أن المليحة تكون في الخمار الأسود، ولم يتجادلوا إذا كان الخمار الأسود هو الذي صنع ملاحة من تلبسه، أم المليحة هي التي صنعت قيمة جمال الخمار الأسود. وهذه المعادلة لم يزل يرددها العرب بخمول فكري، إذ تكمن فيها معادلة سيكولوجيا الإعلام. ولم يكن مسكين الدارمي عفويًا بإبداعه مقولة المليحة في الخمار، فقد كان يدرك في عمق قوله أنه يسجل ريادة تاريخية منذ أكثر من ألف وثلاثمئة سنة في تجسيد مفهوم متكامل للإعلام بوصفه ترويجًا لسلعة مادية. ولكن ليس لنا أن نجزم بتاريخية الريادة المباشرة لها، بأن نؤكد الحقيقة الأنثروبولوجية لنشأة الإعلام بوصفه وظيفة تعمل على ترويج مباشر. فقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من ألف وخمسمئة سنة: "اهجهم، فوالذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من النبل". وهو قول جلي الصراحة في أهمية وظيفة الإعلام في الدفاع عن الرسالة ومبدأ إسلامي أصيل.

والحديث عن دور الإعلام في المعارك الوجودية الكبرى يتفرع ولا ينتهي، فالإعلام أخطر وسائل تغيير مزاج الجماهير وتعبئتها في اتجاهات إيديولوجية. ولا يغيب عنا وهج قول علي عزت بيجوفيتش: "تنظر سيكولوجية وسائل الإعلام الجماهيرية إلى التلفزيون على الأخص بوصفه وسيلة - ليس لإخضاع الجانب الواعي في الناس فحسب - بل الجوانب الغريزية والعاطفية، بحيث تخلق فيهم شعورًا بأنَّ الآراء المفروضة عليهم هي آراؤهم الخاصة". فالإعلام كيمياء بارعة في تزييف الحقائق وتغييبها، أو ترسيخها وبلورتها في الآن معًا.

وكانت لنشأة وسائل الإعلام منعطفاتها التاريخية التي أسهمت في تغيير التفكير البشري، وتأجيج نزعاته، وخلخلة هوياته المجتمعية الخاصة حتى بلغ الأمر أنه دعا إلى العولمة التي تطمح إلى جعل العالم قرية واحدة تذوب فيها الهويات الخاصة.

وفق هذا السياق، تتجلى لنا أزمة الإعلام في الدول العربية التقليدية وتوجهه نحو تمكين ثقافة السلطة الملهمة التي تغيّب حق الجماهير في صناعة شكل حاكميتها ومؤسساتها وهويتها. وهي تنطلق من سيكولوجيا تبيئة الإنسان العربي لمحكومية ثابتة جامدة، وتكييفه مع رؤيتها السلطوية فحسب. فأفرغت الإعلام من وظيفته في بناء الوعي الذي تتطلبه مواكبة العصر في انفجاراته المعرفية والتقنية، بل أسرته إلى قوقعة الرضوخ لفهم السلطة في تكوين إنسان العصر وفق ما تحكمه.

ومن غير شك، فإنَّ واقع الإعلام الرسمي العربي يرتكز على تزييف الوعي ومخادعة الجمهور، وأولويته تغييب وعيه الحضاري المتحرر. وأسرف الإعلام العربي الرسمي في توظيف وسائله لتفجير النزعات التناحرية في المجتمعات العربية للمحافظة على سلطاته وفق جغرافيا سايكس - بيكو، بقصد تذويب حلم الجمهور العربي بوحدة الوطن العربي سياسيًا واقتصاديًا، سواء وفق التوجه القومي أو الإسلامي.

ولم يكن إعلام الحركات التحررية العربية بمنأى عن سياسة الإعلام الرسمي، فلم توظفه لبناء وعي تحرري بقدر ما قامت بتوجيهه لتعميق رؤى تلك الحركات وترسيخ كينونتها.

إقرأ أيضاً: سورية بين الدولة المحرمة وسلطة التنويم المغناطيسي للتغيير

وكان الإعلام في الثورة السورية ليس أفضل حالًا، ولكن أتيح له في مرحلة الثورة منابر إعلامية مؤثرة ذات انتشار واسع أسهمت في إظهار فظائع النظام القمعي وشدة وحشيته. وكان دور إعلام الثورة تسجيليًا، لا يمتلك مهارات مهنية عالية، ولذلك لم يستطع إعلام الثورة أن يكوّن رسالة مؤثرة في العالم الخارجي بحجم تضحيات الثوار ومظالمهم، على الرغم من أن انتهاك النظام لكل المحرمات الإنسانية في الحرب كان محتوى عظيمًا لو أتيح توظيفه وفق سيكولوجيا إعلامية ماهرة في مخاطبة أذهان الغرب ومسارات تفكيرهم. إنما كان إعلام الثورة يخاطب جماهير الثورة وفق ذهنياتهم وآفاق تفكيرهم، في حين كان المنوط به مخاطبة المجتمع العالمي وفق سيكولوجيته وأنماط تفكيره. وخمد هذا الإعلام إثر إخفاقات الثورة على الأرض، وتراجع ممثليه في صورة الائتلاف وأشباهه ممن تنطح لحمل التعبير السياسي عن الثورة، ورافق ذلك تقهقر دعم الثورة عربيًا وعالميًا.

ومن أمثلة وهن إعلام الثورة وغياب الرؤى المهنية في توظيفه، ظهور تجربة فردية فريدة في تأثيرها الإعلامي، وهي تجربة قيصر، الذي تمكن من تقديم محتوى منقطع النظير في قيمته الإعلامية من خلال إعلام الصورة وتأثيرها، وكان كفيلًا بتأليب الرأي العام العالمي واستنصاره. لكن لم يتوافر لهذه المادة إعلاميون يوظفون تأثيرها، وما أنتج من أثرٍ تجلى في عقوبات قيصر وترسيخ إدانة الوحشية، لم يكن بفعل الإعلاميين، بل جهود أفراد من المجتمع المدني استثمروا مؤثرات مؤسساتهم لجذب سيناتور في الكونغرس عمل على فضح سياسي لجرائم الأسد.

وكان أكثر ظواهر غياب الإعلام في الثورة السورية استغرابًا، تغييب وسائل الإعلام السورية التقليدية في مساندة انتصار الثورة وتظهير رؤى قادتها. فعُطّلت التلفزة والإذاعة والصحف، وباتت القيادة تعمل في ظلام غياب أضواء الإعلام. وولّدت هذه الظاهرة تكهنات مريبة حول سياسة سوريا الجديدة وهويتها المؤسساتية وإستراتيجيتها البنائية.

إقرأ أيضاً: متى يصوّب الكاوبوي رصاصه على أحلامه الهرمة؟

وبالرغم من أنَّ الإعلام في تفسير قول الرسول صلى الله عليه وسلم لحسان، ينطوي على مفهوم القوة التي طالب ببنائها القرآن الكريم بوصفه دستورًا إلهيًا، يتورع كل مسلم عن تجاهل أوامره الصريحة، ولا سيما في قوله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ"، فإنَّ فكرة الإرهاب في سياق الآية الكريمة هنا سيكولوجيا إعلامية جلية.

إنَّ تجاهل الإعلام في الدولة الجديدة مثير حقًا، وكأن القائمين على الإعلام فيها تناسوا كل الدعوات الإسلامية الأصيلة لتوظيف الإعلام، وكأنهم كذلك لم يتقبلوا قول مسكين الدارمي في جزئه الأول: "قل للمليحة في الخمار الأسود"، وتمسكوا فقط بشطره الثاني: "ماذا فعلت بناسك متعبد"، وكأنهم رأوه لهوًا وتلهية. ولعل مَن يستدرك تغييب الإعلام، فوقعه أشد من رشق النبل، ولا دولة تقوم من غير رمي النبل، ومن غير ما هو أشد من رشقه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف