: آخر تحديث

ثقافة "التكويع" و"الحواسم": تشوهات ما بعد البعث

3
3
3

حين تترنح الأنظمة الاستبدادية، لا تسقط وحدها، بل تسقط معها طبقات سميكة من القيم والمعايير والأخلاقيات التي صُنعت أو شوهت خلال عقود من القمع والتجويف الممنهج للوعي المجتمعي.

في سوريا، بعد أن خفَّت قبضة الطاغية ثم انهارت، ظهرت ما تُسمّى شعبيًا بـ"ثقافة التكويع"، وهو مصطلح ساخر يعبّر عن الانتهازية المفرطة، والتلون السياسي، والتنقل بين الولاءات دون خجل أو مبدأ. هذه الثقافة ليست مجرد سلوك فردي طارئ، بل نتاج تاريخ طويل من الطاعة القسرية وغياب التعددية، حيث تعلّم الناس كيف ينجون لا كيف يبنون.

ولعل المشهد ذاته تكرّر، وإن اختلفت التسميات، في العراق بعد عام 2003، عندما تفككت قبضة نظام الدكتاتور صدام حسين وسقطت الدولة المركزية فجأة، فانبثقت على السطح ظاهرة "الحواسم"، وهي موجة من النهب الجماعي والفوضى الأخلاقية والاقتصادية، حيث تعامل البعض مع مؤسسات الدولة وكأنها غنائم في معركة مفتوحة. كلا الظاهرتين ("التكويع" و"الحواسم") تمثلان وجهين لنفس العملة: انفلات قيمي ناتج عن انهيار نظام شمولي دون وجود بديل ثقافي راسخ يملأ الفراغ.

إقرأ أيضاً: أوجلان... ميلاد جديد من القيود إلى الأسطورة

تكمن المأساة الحقيقية في أنَّ الأنظمة البعثية لم تكن مجرد سلطات سياسية، بل كانت مصانع لإعادة تشكيل وعي الجماهير، لتجعل من الدولة كيانًا تابعًا للحزب، ومن الولاء الشخصي بديلاً عن القانون، ومن الشعارات الصاخبة قناعًا يخفي هشاشة القيم الحقيقية. وعندما تسقط هذه الأنظمة، ينهار ما تبقى من الإطار الأخلاقي الذي ظل يتماسك بفعل الخوف، لا القناعة.  

في هذا السياق، يصبح من الطبيعي أن يُنظر إلى الدولة كـ"غنيمة" لا كعقد حضاري. فمن تربّى على ثقافة الرعب والولاء الأعمى لا يمكن أن يتحول فجأة إلى مواطن يقدّس المؤسسات ويحترم النظام. ولهذا، فإن فرزًا اجتماعيًا خطيرًا يبدأ بالظهور، حيث يتقدم المتلونون والانتهازيون على حساب النزهاء، ويُستبدل القانون بالمحسوبيات، وتُفكك الروابط المجتمعية لصالح دوائر النفوذ والمصلحة.  

ثمة خلط خطير بين الحرية والفوضى. فالتحرر من الطغيان لا يعني التحرر من القيم، بل إن لحظة السقوط هي أدق اللحظات التي يحتاج فيها المجتمع إلى مرجعية أخلاقية عليا تحفظ التوازن، وتمنع الانحدار إلى الغابة. ولكن كيف يمكن لمجتمعات أنهكتها الدكتاتورية أن تُنتج هذه المرجعية فجأة؟  

هنا تتضح أهمية الوعي الثقافي التراكمي، والإعداد الفكري المسبق، وهو ما غاب تمامًا في دول خاضعة لحكم البعث لعقود.  

إقرأ أيضاً: محارباتٌ خارجُ الزمن: من الفالكيري إلى القسديات

في سوريا والعراق، لم تكن هناك بنية ثقافية حقيقية مستقلة عن السلطة. تم تجريف النخب، وإسكات المثقفين، وتزييف التاريخ، وتحويل التعليم إلى أداة تطويع لا تفكير. وبهذا، حين تفجرت اللحظة الثورية أو التحررية، خرج الناس من عباءة القهر دون بوصلة واضحة، ودون أدوات تعينهم على بناء بديل أخلاقي صلب.  

التحول من حالة القهر إلى التوازن، كما يُقال، ليس حدثًا آنيًا، بل مسار حضاري طويل. مسار يبدأ بإعادة بناء الوعي، وتفكيك إرث الاستبداد من داخل الفرد قبل المؤسسة. فليس الخطر في النظام الذي سقط، بل في النظام الذي زرع داخل النفوس.  

إنَّ تجاوز ثقافة "التكويع" و"الحواسم" لا يكون بالتنديد بها فقط، بل بتقديم نماذج سلوكية بديلة، وإعادة تعريف مفهوم الدولة لدى الأجيال الجديدة، وتحصين الوعي الجمعي بمبادئ المواطنة، وسيادة القانون، وتكافؤ الفرص. كما لا بد من مصالحة عميقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، تلك المصالحة التي لا تنبع من الخوف، بل من الثقة المتبادلة والانتماء الحقيقي.  

الأمم لا تُبنى من الحماس الثوري وحده، بل من القدرة على ضبط النفس، ومن العدالة الاجتماعية، ومن مؤسسات يُحترم فيها الضعيف قبل القوي.  

إقرأ أيضاً: السومريون… أول من حبس الحرية

إنَّ أخطر ما ورثته مجتمعات ما بعد البعث هو انعدام الإحساس بالقيمة الذاتية للفرد، وانعدام الثقة بأن القانون يحمي الجميع، لا فئة دون أخرى. وحين يغيب هذا الإحساس، يعود الناس إلى غرائزهم الأولية، ويتحول المجتمع إلى ساحة للنهش، ويصبح الصوت الأعلى هو صوت من يستطيع أن يلتف ويكوع، أو أن ينهب ويقهر.  

من أجل الانتقال من ثقافة النجاة التي ترسخت في زمن الاستبداد إلى ثقافة البناء، لا بد من ثورة قيم توازي الثورة السياسية. ثورة تُعيد للمجتمع ضميره الجمعي، وتُعلّم الناس أن الحرية لا تكتمل إلا حين يُقرنها المرء بالمسؤولية.  

إنَّ المهمة الحقيقية ليست فقط إسقاط الطغيان، بل إسقاط ما زرعه في النفوس من شك، وخوف، وفساد أخلاقي. فالثورات لا تكتمل بتغيير الحكام، بل بإعادة صياغة الإنسان. 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف