ما فتئ التعليم يتطور، وما انفكت أدواته وأساليبه تتغير، وفقاً لما تقتضيه حاجات العصر، ومتطلبات المستقبل. وإنَّ التقويم، بوصفه جزءاً لا يتجزأ من العملية التعليمية، قد شهد تحولات جوهرية، فلم يعد مقتصراً على اختبارات تقليدية، تُقدَّم على نحو موحَّد لجميع الطلاب، وإنما غدا يسير وفق أساليب جديدة، تأخذ في الحسبان قدرات المتعلم، وتكيف نفسها معه، لا العكس.
ومن بين هذه الأساليب، يبرز التقويم التكيفي المحوسب (Computerized Adaptive Assessment)، الذي ما زال بعيداً عن أن يكون جزءاً من النظام التعليمي في الدول الخليجية والعربية، رغم ما ينطوي عليه من مزايا عظيمة، وما يوفره من فرصٍ لا تقدر بثمن.
التقويم التكيفي المحوسب لا يسير على النمط التقليدي، حيث تُلقى الأسئلة على الطلاب جميعهم دون تمييز، وإنما هو نظامٌ ذكيٌ يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تقديم الاختبار وفقاً لمستوى أداء الطالب. فإن كان الطالب متمكناً من المادة، قُدِّمت إليه أسئلة أصعب، وإن بدا عليه التردد، جاءت الأسئلة أقل تعقيداً، في محاولة للوصول إلى مستوى إتقانه الحقيقي للمهارات والمعارف المطلوبة.
أما عن كيفية عمل هذا النظام، فالأمر يجري وفق مراحل متتابعة:
1- يُقدَّم للطالب سؤالٌ أولي متوسط الصعوبة.
2- إذا أجاب إجابة صحيحة، يتلقى سؤالاً أكثر تعقيدًا. وإذا أخطأ في الإجابة، يُطرح عليه سؤالٌ أقل صعوبة.
3- تستمر هذه العملية حتى يصل النظام إلى تقويم دقيق لمستوى الطالب، في فترة زمنية أقصر، وبمستوى إجهادٍ أقل.
ولعل من أهم ما يميز هذا النظام أنه يقدم تقويماً أكثر إنصافاً ودقةً، إذ يتعامل مع الطالب بوصفه فرداً متفرداً، له قدراته واحتياجاته الخاصة، ولا يفرض عليه قالباً موحداً. ومن بين مزاياه العديدة، نذكر:
✅ قياس دقيق لمستوى التعلم؛ حيث لا يكتفي بتقويم مدى صحة الإجابة فحسب، وإنما يحدد مستوى الفهم العميق لدى الطالب.
✅ تحفيز مستمر للمتعلمين؛ إذ لا يشعر الطالب بالملل من سهولة الأسئلة، ولا بالإحباط من صعوبتها؛ لأن كل سؤال يُطرح بناءً على مستوى أدائه.
✅ توفير الوقت والجهد؛ فهو لا يتطلب الإجابة عن جميع الأسئلة في أنموذج تقليدي، بل يختصر المسار وصولاً إلى مستوى الفهم الحقيقي.
✅ تحليل فوري وشامل؛ حيث توفر الخوارزميات الذكية تحليلاً لحظياً لنتائج الطلاب، ويمكن للمعلمين الاعتماد عليه في توجيه إستراتيجيات التعليم.
وعلى الرغم من الإمكانيات الكبيرة التي يوفرها هذا النوع من التقويم، إلا أن اعتماده في كثير من الدول لا يزال في طور الاهتمام، ويرجع ذلك إلى عدة تحديات، منها:
متطلبات البنية التحتية الرقمية؛ فهو يحتاج هذا النظام إلى منصات إلكترونية متطورة، وقدرات حوسبية قادرة على دعم تحليل البيانات الفوري.
ضرورة تدريب المعلمين والمشرفين؛ فنجاح هذا الأسلوب يعتمد على تمكين العاملين في التعليم من فهم آلياته وتفسير نتائجه والاستفادة منها.
توافق المناهج الدراسية مع آلية التقويم؛ إذ يتطلب التقويم التكيفي تصميماً جديداً للمحتوى التعليمي؛ بحيث يتناسب مع متطلبات الذكاء الاصطناعي في التقويم.
ولا شك أنَّ التقويم التكيفي المحوسب سيكون جزءاً من تطور التعليم. فمن خلاله، يمكن بناء نظام تقويمي أكثر ذكاءً، وأكثر عدالة، يتيح للمتعلمين اكتشاف إمكاناتهم الحقيقية، ويتيح للمعلمين أدوات فاعلة لفهم الفروق الفردية بين الطلاب.
إنَّ التحولات التربوية العظيمة لا تحدث دفعةً واحدة، ولكنها تبدأ بفكرة؛ تتحول إلى تجربة، ثم إلى واقعٍ يفرض نفسه بقوته، ويؤكد جدارته بانتشاله التعليم من الجمود، ودفعه نحو آفاق أرحب من التجديد والتطوير.