تعودنا في لبنان أن نسير خلف من يمسك بالجزرة، وأن نصفّق لمن يملك الحقول المعجمية الأكثر ترديًا، وأن نعلي من شأن من يتقن الإسفاف والشتم والسباب، واصفين إياه بالجرأة، والشجاعة، والشطارة... حتى يكاد المرء عند سماع البعض في الحديث عن هؤلاء المتنمّرين المتزلفين المزيفين يعتقد أنَّه أمام كامل الأوصاف والعفاف!
تعوّدنا في لبنان أن نغلق عقولنا، وأن نخرس صوت العقل فينا، وأن نصمَّ آذاننا عن الحق، وأن نطمّش أعيننا عن المنطق، وأن نسير في عتمة الديجور خلف من يوهمنا بأنَّه يملك المصباح الوحيد الذي سيقودنا إلى الضياء الحقيقي...
تعوّدنا في لبنان أنَّ من يعلي صوته في الحديث أكثر، ويتمرّس في الإساءة والتفنن في استخدام ألفاظ سوقية لا يمكن القول عنها إلاَّ أنَّها صورة قائلها التي تتمظهر على لسانه؛ هو الأيقونة التي يشتاقها الناس، وتترقّبها الغرائز لتنتشي بنشوزها ونشازها... انتشاءَ الـمُدْمِن بغانية ٍكان يقصدها ماضيًا في أماكن تواجدها، واليوم تقصده هي من خلف الشاشات، من دون عائق الزمان أو المكان...
وتعوّدنا في لبنان أيضًا أنَّ كل حادثة أو موقف له مثل يمكننا أن نعود إليه، واليوم لا يحضرني إلاَّ المثل القائل إنَّ أفضل من يتحدّث عن الشرف، وينظّر له، هو الذي لم يقربه الشرف لا باللفظ، ولا بالمعنى.
وتعوّدنا أنّ تعمية الرأي العام، وتشويه سمعة البعض أو سيرتهم، إنّما هي تمهيد لأذيتهم في الشكل أو المضمون أو قطع الطريق عليهم لصالح من لا يستحق لأنَّهم هم الذين بجدارتهم يستحقون...
وعلى الرغم من ذلك، - ومن رحمة الله علينا- تعودنا في لبنان أيضًا أنَّ الخير والصلاح لا يزال له منبتٌ في الضمائر التي لا تزال صاحية حيّة في أصحابها، حيّةً صادحةً لا تباع ولا تُشترى، ولا تحني رأسها إلاَّ لله الذي خلقها، ولا تدير ظهرها للحق ولو أدارت لها الراحة ظهرها، ولا تنصف الظالم ولو كان قوة عظمى، ولا تهاب الصعاب التي اصطكت لها هامات الرجال، ولا تلوّن الحقيقة مهما كانت الضغوطات والمخاطر، ولا تتحامل على مُتَّهم، ولا ترمي ببريء في التهلكة، ولا تكتفي بما هو ظاهر بل تتقصّى الأمور والوقائع من الجلدة إلى الجلدة، ولا تتقن مسح الأجواخ أو التسكّع على أبواب الساسة وأصحاب القرار رغبة في منصب وإن كان من حقّها، ولا تتنكّر للإنسان في كل من يَمْثل أمامها، ولا تؤخذ بانتماء أو تديّن أو مذهب أو سياسة أو شعارات؛ بل ترصد الوقائع، والدوافع، والاعترافات، والشهود، والوثائق... ملتزمة بناموس الاحترام وحق البراءة حتى يثبت العكس بالدليل والحجة والبرهان، ومقدّمةً صوتَ الضمير، ورافعةَ العدالة، ونصّ القانون...
كما تعوّدنا في لبنان أيضًا أنَّ بعض من امتهن القانون إنّما حمله أمانة، ليكون لكل صاحب ذي حقٍ حقّه، بما يحفظ العين تنام قريرة متى ودّعت النهار وكلّت من تعب مطالعة الملفات والتدقيق في تفاصيلها، والتنقيب في سياقاتها، والغوص في ما خلف الكلمات، ووصل ما يبدو مقطوعًا، وكشف ما يُخال أنه مستور...
وتعودنا في لبنان أيضًا أنَّ هناك من يومه فلاح وجهد وكدٌّ وبذل نفسٍ وأمانة وإخلاص لنصرة القاضي، واستقلاليته، لما في ذلك من منعة هي واجبة انصافًا للمظلوم وإعلاءً لمبدأ العدالة وتدعيمًا لسيادة القانون، أي سيادة الدولة وأمن المواطن.
وتعودنا في لبنان أيضًا أنَّه مهما حاولت الألسنة الهجينة بث سمومها، وتشويه صورة الحقيقة، فإنَّ ضوء الشمس لا تحجبه الغيوم مهما تلبّدت وتراكمت وعبست ورعدت وأزبدت وهدرت...
غايات يعقوب في ما يُثار من سموم لا يُقصد بها إلاَّ الأذية، وعرقلة المسير بالحق والنضال والاستقلالية والعدالة، وعرقلة مستقبلٍ يجب أن يُبنى على هذا الحاضر المشرّف، والماضي المشرق...
غايات يعقوب هذه ماثلة حاضرة واضحة أمام كل من يعقل، وفي فكر كل من يتابع ويتفكّر في الأمور...
ولكن، وعلى الرغم من غايات يعقوب كلها، فإننا تعودنا في لبنان أنَّ ملح هذه الأرض الطيبة ليس إلاَّ نجاة، وأنّ العدل والشجاعة وخير العمل ليس إلّا نجاة، وأنَّ القانون لا يكون إلاَّ نجاة، وأنَّ القضاء النزيه الكفء سيادة قرار حفظه نجاة...
فلتعلو أصوات النشاز والنشوز ما استطاعت، فالشمس لا يحجبها غير خالقها، وناصرة العدل والعدالة لا بدّ أن يكون الله ناصرها.
فلتعلو أصوات النشاز ما استطاعت، فصوت الحق صُورٌ لا يعلوه صوت...
لكم نشازكم، ولنا نحن صُوْرُ الحقِ نجاة...
لكم نشازكم ولنا ملح هذه الأرض الطيبة ... القاضي نجاة أبو شقرا.