منذ اندلاع الصراع في أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، اتخذت جميع الدول العربية موقفاً شبه موحد بالحياد، والدعوة إلى السلام والابتعاد عن التصعيد، والتي شملت أيضاً الأطراف المتدخلة في النزاع.
الحياد العربي الإيجابي
في موازاة تطور الصراع المستمر حتى يومنا هذا، واصلت الدبلوماسية العربية سياسة الانفتاح وتوطيد العلاقات مع روسيا، وكذلك الصين، انطلاقاً من السياسات الخارجية للدول العربية الفاعلة، التي ترتكز على التوازن بين القوى المؤثرة في صناعة القرار العالمي، والانفتاح الجيوسياسي على مختلف الصعد الآسيوية والإفريقية والأوروبية، لما يحمله من فرص للاستثمارات المستقبلية وتبادل الخبرات، ولا سيما مع النهضة الشاملة التي تشهدها دول الخليج العربي.
وهذا ما دفع ببعض الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية، إلى القيام بالوساطة بين الجانبين الروسي والأوكراني غير مرة في ملفات عدة، من أجل دفع عملية السلام قُدُماً رغم التعقيدات الجيوسياسية، الأمر الذي كان موضع تقدير كبير من قبل طرفي النزاع وكذلك الأطراف المتدخلة فيه. الحياد العربي الإيجابي والراسخ إزاء الصراع في أوكرانيا، أفضى إلى غياب العنصر العربي بعناوينه الجهادية الإسلامية عن ميادين القتال، ما خلا فئة محدودة جداً جندت من قبل هذا الطرف أو ذاك مقابل المال، لكن لم يكن لها أي تأثير سياسي في ظل جحافل المقاتلين الذين جلبوا من القارتين الأوروبية والإفريقية.
ومع ذلك، لا تنفك بعض القوى الغربية الكبرى عن محاولة توريط أطراف محايدة في النزاع، بدءاً من الدول الأوروبية المجاورة لأوكرانيا، مروراً بدول آسيا الوسطى، وصولاً إلى تركيا، حيث تواصل أميركا العمل على الاستفادة من تطور قطاع الصناعات الدفاعية التركية، من أجل التعاقد مع بعض الشركات فيها لتزويد القوات المسلحة الأوكرانية بسلاح ومعدات قتالية، بشكل مباشر أو عبر أطراف ثالثة. في موازاة تسريب هذه المعلومات إلى الصحافة الغربية من أجل إحراج تركيا وسائر الأطراف المحايدة.
محاولات غربية خبيثة
على الجانب العربي، وبعدما يأست القوى الغربية من محاولات ضم دول عربية فاعلة إلى تكتل العقوبات الذي أسسته أميركا لعزل روسيا، والذي "أثبت فشله في جعل موسكو تجثو على قدميها" كما صرح بذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإنها تواصل محاولات التوريط بطرق التفافية ماكرة. من ذلك ما كشفته التسريبات الإعلامية في الصحافة الأوكرانية الموالية لكييف، حول صفقة سلاح بين ألمانيا وقطر، تقضي بشراء الثانية مجموعة من مدافع "هاوتزر" الألمانية الحديثة من طراز RCH 155. هذه الصفقة، التي تنطلق من سعي الدوحة إلى تعزيز قواتها المسلحة وتحديث منظومة تسليحها، تعد صفقة عادية، تندرج ضمن مقتضيات سياسات الدفاع الوطني المعروفة والمتبعة من قبل قطر والعديد من الدول.
بيد أنَّ لهذه الصفقة جانب ألماني ماكر يرمي إلى توريط الدوحة في النزاع الأوكراني بطريقة غير مباشرة، حيث تشير التسريبات الإعلامية إلى أن ألمانيا لا تريد بدلاً مالياً مقابل مدافع "الهاوتزر"، بل طلبت من الجانب القطري الحصول على مدافع "هاوتزر" ذاتية الدفع من طراز PZH 2000 وعددها 12، تملكها القوات المسلحة القطرية ضمن منظومتها العسكرية، بذريعة صيانتها وتحديثها.
في حين تكشف التسريبات الإعلامية أن هذه المدافع الـ12 ستسلك طريقها نحو القوات المسلحة الأوكرانية تلبية لاحتياجاتها، والنداءات الملحة التي تواظب كييف على توجيهها إلى أميركا ودول حلف شمال الأطلسي "الناتو"، لمدها بالمزيد من الأسلحة لمواجهة تقدم الجيش الروسي المضطرد في ميادين القتال. كان بإمكان ألمانيا تزويد أوكرانيا بحاجاتها من مدافع "الهاوتزر" وغيرها من ترسانتها المباشرة، كما تفعل منذ اندلاع الصراع، حيث سبق أن زودتها بدبابات "ليوبارد"، والكثير من الأسلحة النوعية. لكنها تسعى إلى توريط قطر في النزاع، وخرق النهج الراسخ الذي تقوم عليه الدبلوماسية القطرية في أوكرانيا كما في غزة وفلسطين، وفي أفغانستان، وفي غيرها من البقع الجغرافية الساخنة.
تقويض العلاقات التاريخية
القصد من وراء هذه الخطوة إحراج الدوحة، ذلك أنَّ مساعدة أوكرانيا تتعارض مع التصريحات الرسمية الصادرة عن قادتها، والتي أكدت فيها تأييد الحل السلمي للصراع. علاوة على ذلك، فإنَّ الدوحة تتعاون مع موسكو بشكل وثيق في العديد من القضايا، وخاصة في قضية تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وهي التي تتولى الوساطة بين حماس وإسرائيل، بالشراكة مع مصر، منذ عملية السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، واندلاع الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة.
هذه المحاولة الألمانية الماكرة، التي ربما تكون بتوجيه أميركي، تستبطن الإساءة إلى العلاقات القطرية – الروسية، وبشكل أوسع رمي حجر في بئر العلاقات الروسية مع العرب، والتي تشهد تطوراً كبيراً في السنوات الأخيرة، يؤسس لمشهدية مستقبلية أكثر توازناً في الشرق الأوسط، علماً أن روسيا كانت تعد في الحقبة السوفياتية حليفاً تاريخياً للعرب. وفي هذا الإطار فإن روسيا تواصل جهودها من أجل إحلال السلام في الشرق الأوسط بالشراكة مع كل الأطراف المعنية في الصراع، وتقدم بانتظام مساعدات إنسانية إلى فلسطين وخاصة قطاع غزة، وكذلك لبنان وسوريا، لكن الإعلام الغربي يسعى دائماً إلى التعتيم على هذه المساعدات، للإيحاء بعدم اهتمام موسكو بالمنطقة وحلفائها التاريخيين.
تتبدى المؤشرات السياسية الخبيثة في الصفقة هذه من خلال التسريبات المتعمدة إلى الصحافة الأوكرانية بالذات، والتي ترمي إلى إشاعة مناخ مزيف حول وجود تحالف سري بين الدوحة وكييف. ومن يقف خلف هذه التسريبات يدرك تماماً أنها ستصل إلى الإدارة الروسية، بما قد يسهم في تقويض العلاقات الروسية – القطرية القائمة، على اعتبار أن المساعدة القطرية ستعد دعماً سلبياً لصالح الأنشطة الأوكرانية ضد روسيا.
بيد أنَّ الأخيرة متمرسة في أساليب الدعاية والتوريط الأميركية والغربية، وكيفية مواجهتها وتقويضها. ولذلك نجحت في تحويل نظام العقوبات الغربية إلى فرصة لتوسيع علاقاتها في مختلف اتجاهات الأرض، وخصوصاً في الشرق.