شهدت عمليات الترحيل من قبل دائرة الهجرة واللجوء في النمسا نشاطاً غير مسبوق خلال النصف الأول من العام الحالي، وشملت 3149 لاجئاً، غادر منهم 1427 بشكل طوعي ومستقل، بينما تم ترحيل 1722 شخصاً قسرياً، أي بزيادة 293 لاجئاً مقارنة بالربع الأول من عالم 2023، كما تم إعادة 100 شخص إلى بلغاريا بموجب اتفاقية "دبلن" بحلول نهاية آذار (مارس)، 78 من سوريا، و14 من أفغانستان.
الإحصائيات تؤكد أنَّ عدد اللاجئين في النمسا بلغ نحو 146 ألف لاجئ، منهم 58 ألف لاجئ سوري و4100 من جنسيات مختلفة. وبالرغم من الأزمة التي خلقتها أعداد اللاجئين والتدفق غير العادي الذي حظيت به النمسا، والرغبة الشديدة من قبل أكثر اللاجئين بالتوجه إلى بلاد النمسا باعتبار أنها من البلاد الأوروبية المحببة لجميع اللاجئين الذين يرغبون بالإقامة فيها للعديد من الأسباب، إلّا أنّ وزارة الداخلية النمساوية، وخلال الفترة الماضية الممثلة بوزيرها غيرهارد كارنر من حزب "الشعب"، أكدت مراراً على أن هناك نية من قبل الحكومة بتخفيض عدد اللاجئين بعد تقييد إجراءات عمليات لم الشمل. وإذا ما حاولنا أن نجري مقارنة بسيطة بين ما تم تقديمه من طلبات لم شمل الأسر حتى شهر حزيران (يونيو)، فقد تم تقديم 493 طلباً لدخول النمسا مقارنة بأكثر من 2000 طلب في شهر كانون الثاني (يناير)، وهذه الأرقام الحالية تعد متوسط العام الماضي، إذ وصل عدد طلبات تقديم لم الشمل 1169 طلباً، أي أن الفارق يظل كبيراً جداً.
وفي الإطار، فقد شهدت عمليات القبض في ولاية بورغنلاند النمساوية تراجعاً كبيراً، وحتى نهاية حزيران (يونيو) تم تسجيل حوالى 290 حالة عبور غير قانوني للحدود ومقارنة بـ9600 حالة في نفس الفترة من عام 2023 وأكثر من 16400 حالة في عام 2022، ويعود سبب الانخفاض في أعداد اللاجئين الراغبين في العبور بهدف الوصول إلى النمسا إلى نجاح جهود مكافحة مافيا الاتجار بالبشر، ورغم ذلك يؤكد وزير الداخلية أنّ عدد طلبات اللجوء مرتفع نسبياً، رغم الانخفاض، وخلال الأشهر الخمسة من العام الحالي تم تقديم 11644 طلباً وهو ما يُمثل انخفاضاً بنسبة 36 بالمئة مقارنة بالعام الماضي، وكان السوريون من الفئة الأولى بأكثر من 7300 طلب، تلاهم الأفغان فالأتراك فالصوماليون.
وفي جانب مخالف، يؤكد خبراء في النمسا على الدور الهام للمهاجرين في استمرار النظام الاجتماعي النمساوي، محذرين في الوقت نفسه من العواقب الوخيمة لسياسات الترحيل التي تلجأ إليها الحكومة، وتضغط عليهم بهدف الحد من التوجه إلى النمسا.
في فيينا تصبح احتياجات السكان ضرورية وملحّة لأمثال هؤلاء الأشخاص، ومساهمتهم في دفع عجلة التنمية في البلد، على الرغم من أن حزب الحرية النمساوي FPÖ منذ فترة طويلة يطالب بشكل متكرر بخفض الهجرة، وهو دعا مؤخراً، تحت شعار الترحيل، إلى وقف اللجوء إلى غير الأوروبيين، وترحيل طالبي اللجوء المرفوضين المهاجرين المجرمين.
إقرأ أيضاً: الخطيب.. "فلتة" أخلاقية وكروية!
وفي ألمانيا، ناقش اليمين المتطرف خططاً لترحيل ملايين الأشخاص من أصول أجنبية تحت نفس الشعار، في الوقت نفسه نبّه باحثون في فيينا من مخاطر تطبيق هذه الأفكار المسمومة، مؤكدين على مساهمات المهاجرين القيّمة في النظام الاجتماعي وضرورة الإبقاء عليهم.
عالم الاجتماع النمساوي يورغ فليكر من جامعة فيينا أكد خلال مؤتمر صحفي عبر الإنترنت على أنه لن يكون من الممكن لأي نشاط تجاري الاستمرار في بعض القطاعات دون عمالة أجنبية، وأكد أن أكثر من نصف العمّال في مجالات تنظيف المباني وصيانتها والفنادق والمطاعم وتوفير القوى العاملة، هم من غير النمساويين، كما أن ثلث العمال في صناعة المواد الغذائية والبناء والرعاية الصحية هم من المهاجرين. وأكد فليكر في حال اختفى ثلث هؤلاء العمال، فلن يكون هناك أي إنجاز فعلي.
إنَّ خطط الترحيل، كما أشار فليكر التي ناقشها اليمين المتطرف في ألمانيا، والتي لم يحد حزب الحرية النمساوي عنها، ستكون كارثية، وإن تلبية احتياجات السكان في فيينا التي تضمّ عدداً كبيراً من المهاجرين مقارنة بباقي النمسا تصبح مستحيلة بدونهم.
إقرأ أيضاً: صلاح... وميركاتو صيفي ساخن!
ففي مجال الإقامة والضيافة على سبيل المثال، هناك 75 بالمئة من العاملين من أصول مهاجرة، بينما تصل النسبة إلى 66 بالمئة في البناء والخدمات الأخرى، بما في ذلك تنظيف المباني، و45 بالمئة في مجال التعليم والتدريس والرعاية الصحية.
من جهة ثانية أكد فيليب ثر أستاذ تاريخ شرق وسط أوروبا في جامعة فيينا، أنَّ المهاجرين كانوا صفقة رابحة بامتياز لأنظمة التأمين الاجتماعي النمساوي.
وأشاد فيليب ثر بالقول: "صحيح أنَّ بعض البرامج التي اتبعت من خلال الحكومة دفعت باللاجئين بالوصول إلى هذه المرحلة، وصرف لقاء ذلك مبالغ طائلة مثل دروس تعلم اللغة، ودورات التأهيل بعد موسم الهجرة في عام 2015 ـ 2016، إلا أنّ النتائج التاريخية إيجابية وبشكل واضح".
وقال ثر: "لطالما ساهم المهاجرون في رفاهية المجتمعات المضيفة، كما تم التعامل معهم بشكل بنّاء بدلاً من اعتبارهم غير مرغوب فيهم".
إقرأ أيضاً: سالزبورغ النمساوية... الغد الأمل
ودعا فليكر إلى التركيز بشكل أكبر على المساهمات الإيجابية للمهاجرين في النمسا من خلال عملهم، ووصف فكرة "الترحيل" الجذري التي تطرد الأشخاص ذوي الجنسية الأجنبية، أو الجذور الأجنبية من البلاد، تعد هجوماً على جميع السكان".
وشدّد على أن الترحيل القسري للمهاجرين سيكون بمثابة تطهير عرقي، مذكراً بمثل هذه الممارسات في يوغسلافيا سابقاً، والتي أدت إلى تصاعد العنف، بما في ذلك ضد مجموعات أخرى مثل الأقليات والمثقفين ورجال الإعلام، وهذا ما سيؤدي إلى انهيار سيادة القانون، وتحويل الديمقراطية الليبرالية إلى دولة عرقية، مع ما يترتب على ذلك من خسائر اقتصادية وزيادة الفقر.