كثر رحيلهم خلال بضعة أيام. رفاق مشوار تغريبة لندن الصحافية كثيرون، لكنهم لا يستوون. كما هي سُنن الحياة في كل شيء. ذلك أن منهم ومنهن أولئك الذين واللواتي يأتون فلا تحس تجاههم بأكثر من واجب التزام أخلاق زمالة العمل، ويبدو واضحاً لك أنهم كذلك أيضاً، فهم إذا مضوا إلى حال سبيلهم، أو غادرتهم أنت إلى جديد دروبك، لم تشعر أنهم تركوا مقدار بوصة من فراغ وراءهم، بل إن ذكرى مرورهم في دروب مشوارك الصحافي تبدو ضبابية بين تلافيف الدماغ، حتى لا يكاد يكون لها حضور يعزف من جميل اللحن ما ينعش أي نَغم في الذاكرة.
أولئك كثيرون، بالفعل. في المقابل، هناك الخواص القريبون، وهم قليلون. وهناك الأرقى بدرجات من منزلة خواص الزملاء في العمل، والأصدقاء الخُلّص في حلو مشاوير الحياة، ومرها. هؤلاء هم الأقربون، وهم قليلون جداً.
لن أقول أين هو مكان الصديق العزيز ناصر عبد العزيز الغنيم بين مراتب العلاقات الإنسانية التي أشرت إليها، والتي ليست تخصني حصراً، بل هي سمات كل علاقة تنشأ بين فرد وآخر، سواء داخل مقر العمل، أو خارجه. إنما، قد يكفي أن يسبق إسم ناصر تقديم صفة (الصديق)، متبوعة بوصف (العزيز) كي تتشكل لدى قارئ، وقارئة، هذه الكلمات فكرة، ولو موجزة، عن كم كان وقع الحزن مفجعاً، وإيقاع الصدمة موجعاً، حين طالع نظري اليوم، الثلاثاء- تحديداً قُبيل ساعات- نبأ وفاة ناصر يوم السبت الماضي.
مبكراً جمعتني الأقدار مع ناصر ومع والده عبد العزيز الغنيم في لندن. بالطبع، جرى التعارف عبر العمود الفقري لخيمة كانت، ولم تزل، تجمع تحت وارف ظلالها عدداً من محبي عثمان العمير، الإنسان، ومُريدي نهجه الصحافي المستشرف آفاق المستقبل دائماً، بلا ملل، أو كلل.
عندما تعرفت إلى ناصر، جرى ذلك ربيع عام 1981، في منزل عمه عثمان. كنتُ يومها أشغل موقع مدير تحرير صحيفة "العرب" اللندنية، وكنتُ أمر بظرف شخصي مزعج، أحاول، خارج ساعات العمل، أن أخرج متعافياً مما أصابني بسببه من كدمات، فوجدت في ناصر، الذي عرفته للتو، آنذاك، خير رفيق يستمع فيتفهم، وينصت فيواسي، ويبتسم ناصحاً بما مضمونه؛ دع الماضي وراء ظهرك، وانظر نحو الغد متفائلاً.
مذ ذاك التعارف، نشأت مع ناصر صداقة ليست لها علاقة بأي عمل. ذلك نوع من الصداقات العفوية التي تنشأ بعيداً عن أية حساسيات تتصل بمتطلبات العمل، وتبقى كذلك، حتى لو باعدت الأمكنة والمسافات بين أطرافها.
لم أكن أر ناصر كثيراً، لكنه كان حاضراً، وهو الغائب بعيداً. تكرر اللقاء اللندني في الرياض صيف العام 2005، فور بدء علاقتي المهنية مع "إيلاف" في موقع مستشار أعاون أسرة تحريرها، التي تضم نخبة متميزة، مجتهدة، وطموحة، من الجيل الشاب، على استكشاف آفاق التطوير والتجديد. ثم كرت مسبحة اللقاءات خلال التغريبة المغربية من تجربتي الصحافية، وكان ناصر يدلي بدلوه، على الصعيد الإداري، مشاركاً في الإعداد لإصدار "إيلاف ديجيتال"، الفكرة التي تفتق عنها إبداع عثمان العمير مبكراً، قبل أن تلحق بها مواقع عدة بين منصات الصحافة العربية الألكترونية.
بالطبع، ذلك من طبائع الأشياء في الحياة عموماً، ومن نواميس الكون الصحافي، خصوصاً. عندما نضجت فكرة المشروع، وآن أوان إشهارها على الملأ، كان ناصر حاضراً في المنامة، عاصمة البحرين، حيث جرى حفل الإطلاق صيف عام 2006 بحضور جمع متميز من شخصيات الإعلام المعروفة.
آخر لقاء لي مع ناصر، كما الأول، كان في لندن، صيف العام الماضي، وفي منزل الأستاذ عثمان العمير أيضاً. بدا يومها في كامل عافيته، خصوصاً بعدما تعافى تماماً من "كوفيد19"، الذي كان أصيب به في أوج انتشاره عالمياً.
كما عرفته دائماً، كانت ابتسامة ناصر الودودة تكسو وجهه المشرق بالتفاؤل. طفق ناصر، خلال ذلك اللقاء، يحضني على وضع كتاب يوثق أهم محطات رحلتي الصحافية، خصوصاً اللندنية منها، فيما رحت أتحجج من جهتي بذرائع تحول دون إتمام هذه المهمة، لكنني وعدت أن أحاول.
ها قد رحل ناصر فجأة، بلا مقدمات، وهو واحد من شهود رحلتي تلك. ليس أمام مصيبة الموت سوى الرضا والتسليم والإيمان. رحمك الله أبا عبد العزيز، الصديق العزيز، وصبّر أهلك كلهم ومحبيك.