: آخر تحديث
هل من خط فاصل بين القيمة الفنية والاقتصادية؟

بين سلعة فبلين والعمل الفني.. تتوارى لعبة اجتماعية

37
32
31

في عالمنا المعاصر، تتنوع وتتعدد المفاهيم والمصطلحات التي تتعلق بالثقافة والفن والاقتصاد. ومن بين هذه المفاهيم المثيرة للاهتمام، نجد "سلعة فبلين والعمل الفني".

وبالرغم من الاختلاف الواضح في المفهوم والطبيعة بين سلعة فبلين والعمل الفني، إلا أن هناك تداخلاً مثيرًا يجمع بينهما. حيث يمكن أن يكون العمل الفني ذاته سلعة فبلين، في الوقت الذي يتم تداوله وشراؤه كقطعة فنية للتمتع بها وعرضها، والعكس صحيح. وهنا يبرز التحدي في تحديد الخط الفاصل بين القيمة الفنية والقيمة الاقتصادية لكلا منهما، وهو ما يتطلب تحليلًا دقيقًا وفهمًا عميقًا للعلاقة بين الفن والاقتصاد.

تعرف السلعة في مجال الاقتصاد بأنها شيء مادي يتم تداوله وشراؤه من قبل المشتري. وفي سياق السلع الفاخرة، تبرز "سلعة فبلين"، التي ارتبطت بالأسماء ذات العلامات التجارية الرفيعة المستوى والمنتجات ذات الجودة العالية. ولا تتمتع سلعة فبلين بالفخامة والتميز فحسب، بل بقيمة إضافية تعكس الرفاهية والنجاح الاجتماعي، وعلى سبيل المثال، الساعات والمجوهرات، والسيارات.. إلخ. ويرتفع ثمن السلعة كلما زاد الإقبال عليها، وهو ما يؤشر الى، ارتفاع قيمة المشتري. وليس لندرة السلعة وارتفاع الطلب فقط.
و "سلعة فبلين" هي أحدى النظريات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالنقد الرأسمالي التي طرحها الاقتصادي والاجتماعي الأمريكي الشهير ثورستين فبلين في كتابه "نظرية الطبقة المترفة: دراسة اقتصادية للمؤسسات". حيث تركز هذه النظرية على تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية في سلوك الاستهلاك وكيفية استخدام السلع والمنتجات للتعبير عن الوضع الاجتماعي المرموق في المجتمع.

تغيّر المفاهيم
لقد تغيّرت الأعمال التجارية الفاخرة بشكل كبير خلال العقدين الماضيين واختلفت المنتجات الحصرية اليوم اختلافا كبيرا عن ذي قبل. حتى بدأت الشركات الفاخرة كشركات متخصصة تقتصر على القلة السعيدة القادرة على شراء منتجاتها. الا انها اليوم بدأت تستهدف عددًا متزايدًا من العملاء. 

والقضية اليوم لا تبدو كنشاطات تجارية وحسب وانما أكبر من هذا بكثير، حيث تلعب العلامات التجارية والسلع الفاخرة دورا مهما في تشكيل الساحة الاقتصادية والاجتماعية. والسبب يرجع أيضا الى الإستراتيجيات التي تبنتها الشركات الفاخرة لتوسيع قاعدة عملائها وتلبية احتياجاتهم المتغيرة، وعلى سبيل المثال المنتجات الحصرية، المتاجر التجارية الفاخرة والتجارب التسويقية الفريدة ما ادى الى ترسيخ هذه السلعة، وشكلها في الوعي الاجتماعي. 

وإذا امعنت النظر قليلا ستجد ان فكرة "سلعة فبلين" وتأثيرها على الثقافة والمجتمع، لا تعد مجرد وسيلة للتعبير عن الوضع الاقتصادي فحسب، بل هي لعبة اجتماعية يشترك فيها المتسابقون/المستهلكون لتأكيد مواقعهم في الهرم الاجتماعي وتعزيز شعورهم بالرفاهية والتميز.

ومن جانب اخر، فان العمل الفني هو تعبير فردي وإبداعي ذو قيمة فنية وثقافية. قد يعكس رؤية الفنان وتجربته الفريدة، وقد يحمل رسائل ومعانٍ عميقة تثري تجارب الجمهور. لكن هذا لا يمنع من الوظيفة الاستثمارية والتداول التجاري.

فمنذ اللحظة التي يطرح فيها العمل الفني في الأسواق التجارية، الخاصة او العامة، ويعرض على جامعي الفن وأصحاب صالات العرض/ التجار، الصغار والكبار، يصبح سلعة، وعلى الرغم من ان هناك الكثير من الطرق التي يتبعها كلا من الفنان والتاجر للالتفاف على تلك الإجراءات، (اقصد عمليات البيع والشراء المباشرة وغير المباشرة) الا ان هذا لا يغير في الامر شيء.   

أسواق الفنون الجميلة
ففي أسواق الفنون الجميلة، هناك ثلاثة لاعبين أساسيين هم:
الأول: الفنان، صانع أعمال فنية ليست للبيع في المقام الأول 
والثاني: المقتني الذي هو في الغالب ليس لديه أدنى فكرة عن قيمة هذا العمل أو ذاك 
والثالث: الوسيط وهو من يطالب بسداد قيمة المبيعات التي لم يرها قط. 
وهذا لأن الفنون الجميلة هي نوع خاص من (السلع)، باعتبارها مقتنيات غير (نفعية)، وذات مكانة ثقافية أعلى قيمة من الاستهلاكية والنفعية، وفقا للتقاليد والاساطير الموروثة. وفي هذا الشأن يسعى الفنانون التشكيليون الجادون إلى صناعة فن ذي جودة عالية يثير اهتمام النقاد، والتجار، والزبائن. لكن هذا لن يتحقق إلّا إذا أتيحت لهم فرصة العرض في مدن وصالات عرض ذات أهمية رئيسية في أسواق الفن، بغض النظر عن سمات العمل نفسه، ان كانت سلبية ام إيجابية، والحال تشترك السلعة الحصرية والعمل الفني التشكيلي، في الكثير من القيم التي تبرز أهمية كل منهما وتؤثر في تقديرهما واستهلاكهما. وعلى سبيل المثال القيمة الجمالية، كإبداع وتفرد، والتفاعل ـ الاجتماعي اذ ان كلاهما يحملان رمزية اجتماعية، فقد يستغل الأفراد سلعة فبلين للتعبير عن وضعهم الاقتصادي والاجتماعي المرموق كما ذكرنا اعلاه. 
وبالمثل، فان تداول او اقتناء الاعمال الفنية في الأسواق التجارية تضفي على الشركاء وجاهة اجتماعية وسلطة تحول الانسان العادي/ التاجر، الى رمزًا اجتماعيًا بارزا، هذا بالإضافة الى الوظيفة الترفيهية التي تجمع بينهم، التسلية والمتعة. 
وأخيرا، القيمة الاستثمارية والنقدية، اذ تحمل السلع الحصرية قيمة نقدية عالية يتم تحديدها بناءً على اسم العلامة التجارية والعرض والطلب، ويعامل العمل الفني بالمثل حين يستبدل اسم الفنان باسم العلامة التجارية.

السلعة الحصرية
تتمتع السلعة الحصرية بتأثيرها الساحر وسلطتها على الجمهور وقد لا يتمتع بها العمل الفني ولهذا فقد استغلت الحركة الفنية، (البراندالية)، التي تأسست في عام 2012 في المملكة المتحدة ثم انتشرت في مختلف أنحاء العالم، سلطة الإعلانات للسلع التجارية، لممارسة نشاطاتها الاحتجاجية السياسية. ويذكر انها ليست الحركة الاحتجاجية الشبابية الأولى من نوعها في المملكة وانما كانت قد سبقتها العديد من الحركات ومن اهم مؤسسيها رسام الشوارع، بانكسي، واسطورة الكَرافيتي، كما أطلق عليه، (الملك روبو) الذي توفي إثر تعرضه لحادث غامض بينما كان في طريقه لافتتاح معرضه الفني الأول، عام 2011.

يستبدل فنانو (البرانداليه) الرسائل التجارية الأصلية المكتوبة على الملصقات الإعلانية الكبيرة في الشوارع والمناطق العامة برسائلهم النقدية السياسية الساخرة للتعبير عن قضايا التلوث البيئي، والتنمية المستدامة، والاستهلاك المفرط، والاستغلال الاقتصادي، وغيرها من المواضيع الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك، يعتبر هذا النوع من الفن استفزازيًا ومخالفًا للقوانين في بعض البلدان، حيث يتم اعتباره تلويثًا للملكية العامة وتدميرًا للممتلكات. 

سلعنة الفن في المجتمعات المعاصرة
لقد أبان الفيلسوف" آرثر دانتو" الفرق بين السلعة والعمل الفني، حيث قال في هذا الشأن: "يعرض السيد "أندي ورهول"، فنان البوب نسخًا طبق الأصل لـ” صناديق بريلو"، مكدسة فوق بعضها بعضًا، في أكوام أنيقة، كما هو الحال في مستودع لصناديق سوبر ماركت. الصناديق مصنوعة من الخشب ومصبوغة وكأنها من الكرتون، ولِمَ لا؟  في الواقع، يمكن لأصحاب "شركة بريلو" أن يصنعوا صندوقهم من الخشب المعاكس دون أن تتحول الصناديق إلى آثارٍ فنيةٍ.

ويمكن لـ ”أندي ورهول" صنعها من الورق المقوّى دون أن تتوقف عن كونها فنًّا. حتى لا ننسى الأسئلة القيمة الجوهرية، نتساءل: لماذا لا يستطيع أصحاب "شركة بريلو" صنع الفن؟ ولماذا "ورهول" لا يصنع سوى أعمالٍ فنية فقط. ما الذي يجعل صناديقه آثارًا فنية؟ الجواب: إن المستودع ليس رواقًا فنيًا... وخارج الرواق، تبقى صناديق بسيطة...لقد فشل الفنان في إنتاج شيءٍ حقيقيّ، لكنه أنتج عملًا فنيًّا. واستخدامه لـ” صناديق بريلو" ما هو إلّا مجرد امتداد للموارد والخامات المتوفرة لدى الفنانين. أي أن الشيء المعروض في الرواق الفني، هو فن، بينما الشيء نفسه على رفوف المتاجر هو بضاعة! 
نظرية تشبه الحكمة التي تقول: أينما تضع نفسك تجدها!

نظرية دانتو
لقد مر زمن طويل على نظرية دانتو وأخشى ان هذه الفلسفة مثل غيرها، أصبحت جزءا من التاريخ، لان السلع الحصرية اليوم دخلت الأروقة الفنية وبيعت في مزادات الفن العالمية، سوثبي وكريستي شانها شان الاعمال الفنية. هذا بالإضافة الى قيمتها النقدية والاستثمارية التي تستعرضها تلك المتاجر الفخمة ذات الطراز المعماري المتميز، من الأحذية والحقائب الى المجوهرات والساعات، وهلم جرا. "حيث يلتقي الجمال الخالد والتراث المرموق مع أسلوب الحياة الحديث"، كما يروج لها على الصفحات الالكترونية للمزادات العالمية ذائعة الصيت. علاوة على ذلك، يتسابق المشاهير من الفنانين على التعاون مع العلامات التجارية المعروفة، على سبيل المثال الفنانة اليابانية، يايوي كوساما، التي وضعت بصمتها الفريدة والمميزة، النقاط المتكررة والألوان الزاهية، على حقائب اليد والملابس والإكسسوارات للعلامة التجارية لوي فيتون في عام 2012. ولم تقتصر هذه الشراكة المميزة بين لوي فيتون و يايوي كوساما على المنتجات الحصرية فحسب، بل شملت أيضًا ديكورات متاجر لوي فويتون حول العالم. 

وربما كان العمل الفني، وهو جمجمة مرصعة بالماس، المعنون بـ (من اجل حب الله)، للفنان دايمان هرست الذي اشتهر بأعماله الاستفزازية والمثيرة للاشمئزاز، هو أعظم مظهر من مظاهر (صنم السلعة) في الفن المعاصر. وعلى الرغم من الرسائل الوجودية التي حملها هذا العمل الفني الا ان ذلك لم يمنع بعض النقاد من اعتبار هرست، تاجر يلهث وراء مضاعفة الثروات. 

شاعت هذه المظاهر في الفن المعاصر وأصبحت الاعمال الفنية قطع جاهزة مصنعة في المصانع الكبيرة او الورش الصغيرة على حد سواء، انيقة، مقطعة بالمكائن، مستنسخة ومكررة، مدعومة بالوسائط الباهظة الثمن والعلامة التجارية، (اسم الفنان). 

إعادة تعريف
لهذا السبب يعتقد المفكرون ان الوقت قد حان لإعادة تعريف السلعة وفقًا للتفسير الذي قدمه ماركس في كتاب، راس المال، فإن للسلع جانبًا مزدوجًا: أولا القيمة النفعية: "البضاعة هي في بادئ الامر مادة خارجية، شيء، يلبي، بفضل خصائصه، حاجة ما من الحاجات البشرية. وطبيعة هذه الحاجات ـ سواء كان مصدرها المعدة ام الخيال ـ لا تغير في الامر شيء. كما ان القضية لا تنحصر في كيف يلبي الشيء المعني الحاجة البشرية: بصورة مباشرة كوسيلة للمعيشة، أي كمادة للاستعمال، ام بصورة غير مباشرة كوسيلة للإنتاج." 
ثانيا: القيمة التبادلية، أي ان السلع مستودعات ذات قيمة، يمكن استبدالها بسلع أخرى لها. "في حدود العلاقة التبادلية للبضائع تساوي كل قيمة استعمالية معينة تماما ما تساويه قيمة استعمالية أخرى، وذلك بشرط ان تتوافر بالنسبة اللازمة." 

وعلى الرغم من التحديات التي تواجه القيم الجمالية في الأعمال الفنية، الا انه بات من الواضح أن الفن في مجتمعنا الحالي يعد نشاطًا اقتصاديًا وتجاريًا، لا يختلف كثيرا عن الماضي. فقد عمل الفنان لحساب الكنائس والقصور الملكية والتجار الأثرياء، في العصور السابقة، لأداء مهام محددة مثل تصميم تماثيل القبور وتزيين الأسقف ورسم الصور الشخصية ونحت التماثيل الدينية، وعومل وقتها معاملة الحاشية المتميزة. ولهذا السبب، فان الأعمال التي كانت تنفذ لصالح رعاة محددين، في أماكن محددة، لم يتم تداولها في الاسواق المفتوحة، بل سلع اشبه بسلع فبلين. وبناءً عليه فان النظرية التي تقول: ان الفن ليست له جوانب تجارية، أصبح محض اسطورة. وان القيمة الجمالية باعتبارها مقياسا ثابتا لتحديد القيمة النقدية للعمل الفني هي أيضا اسطورة، فقد تجد عملًا فنيًا يتضمن قيمة جمالية عالية ليس له قيمة نقدية، وبالمقابل تجد عملا يفتقد للقيم الجمالية لكنه يحمل قيمة نقدية عالية اكتسبها من العلامة التجارية، او اسم الفنان. وحتى فلسفة (كانت) التي تنص على ان "النظر إلى الجمال الفني ما هو إلّا تجربة ذاتية يشعر بها المرء مباشرة في عقله، وهي لذة تأمّلية خالصة ليس لها علاقة بحاجة بيولوجية، أو مصالح نفعية." هي أيضا اسطورة. اذ ان معنى كلمة رفّه في معاجم اللغة العربية، هو كل ما أطرب خاطره، أراحه، أدخل الفرح على النفس، والقسط من الراحة والترفيه نشاطان يقوم بهما الإنسان بغرض التسلية والمتعة، وأما الرفاهية فهي رغد العيش. وتلك الميزات والامتيازات لا تمنح إلا لمن يتمتع بـ بحبوحة اقتصادية وأوقات فراغ كافية، أي أنها ليست قيمًا أساسية في حياة الإنسان المكافح وانما ثانوية. وفلسفة (كانت) على ما يبدو استهدفت الطبقة الارستقراطية الحاكمة، في القصور الملكية والمعابد، التي احتكرت الفن لعدة عصور. كما أن فكرة "الجمال على انه رضاء مجرد من الأغراض" أيضا اسطورة. لان النظر الى الجمال هو إرضاء الحاجات النفسية كالتسلية والمتعة وهي ضروريات لا تقل قيمة عن الحاجات البيولوجية.

هذا بالإضافة الى ان اكتساب الخبرات بشكل مباشر، لم يعد شرطًا أساسيًا في حالة الأحكام الجمالية.  فقد ناقش الفلاسفة والنقاد العديد من الاعمال الفنية المهمة من دون الحاجة إلى رؤيتها بشكل مباشر. هذا ينطبق أيضًا على التعليم الفني، حيث توضح الأدلة القاطعة أن المعلومات المنقولة عن طريق وسائل موثوقة، كافية لإثراء الخيال، تعد شكل من اشكال التجربة المباشرة.

وبناءً على ما ذكر اعلاه فان الوقت قد حان لإعادة تعريف العمل الفني على الأقل بالنسبة لغالبية الفنانين (الغير سعداء)، او غير المحظوظين، ممن هم بحاجة إلى المال من أجل ممارسة الفن على اقل تقدير. اولئك الذين يعملون في مجالات أخرى، ويقضون فيها ساعات طويلة تستزف قدراتهم الجسدية والذهنية والنفسية، ناهيك عن أنواع الدخل المختلفة، المنح، والتعيينات المؤقتة، والمكافآت، وما إلى ذلك - من أجل كسب عيش محفوف بالمخاطر. 
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات