: آخر تحديث

فرسان القدر الأربعة

1
1
1

ماذا كان سيحدث لو فازت كامالا هاريس على دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية قبل خمسة أشهر؟ أو لو لم ينجُ ترمب بما يشبه الأعجوبة من محاولة اغتياله؟ سؤالٌ يتوجّب طرحه إزاء الاهتزازات الضخمة التي أحدثها ترمب في كلّ أنحاء العالم. وأبعد من ترمب وهاريس، التساؤل التالي: ما موقع الفرد، الشخص الواحد القائد، في مجريات الزمن الراهن، زمن القرن الحادي والعشرين؟

لم يكن هذا السؤال ليُطرح في الماضي، خصوصاً قبل الثورة الفرنسية الكبرى، ثورة 1789، التي أسقطت «النظام القديم»، وظهر معها علم الاجتماع الحديث، حيث بات لهذه الظاهرة المفاجئة التي اسمها الشعب، موقعها الأساسي في صنع التاريخ. كان التاريخ، على مدى الأزمان، هو تاريخ الأفراد الملهمين لا الجماعات والشعوب، تاريخ الأنبياء والأولياء والقديسين والملوك والقادة المحاربين. وحتى بعد ذلك، عام 1807، حين شاهد الفيلسوف الألماني الكبير هيغل، من طريق المصادفة، نابليون بونابرت، مجتازاً على رأس 112 ألف رجل من جيشه، مدينة إيانا ليواجه في السهل الذي يحمل اسمها، القوات الألمانية، هتف قائلاً: «لقد رأيت روح العالم مارّاً على صهوة حصان!». كان بونابرت بالنسبة إليه الصورة المثلى «للبطل الهيغليّ»، صانع التاريخ.

وانتقال محور التاريخ المجتمعي من الأشخاص العظام ووقائعهم إلى الشعب، رافقه الانتقال في عالم الآداب والفنون، من أولئك الأشخاص وأفعالهم، إلى التعبير عن مكنونات الذات الفردية، ذات المبدع. في العصر الكلاسيكي الذهبي، عصر لويس الرابع عشر، «الملك الشمس»، كان محرّماً على الأدباء التحدّث عن أنفسهم وعن حيواتهم الذاتية. كان الشعار السائد أنّ «الأنا بغيضة». وكان لا بدّ من انتظار الثورة الرومنطيقية حتى تصبح «الأنا» هي جوهر التعبير الأدبي، وهي ما زالت جوهره اليوم أيضاً. وفي الفن، كان لا بد من الثورة الانطباعية لينتقل الرسم من الاهتمام الأوحد بالأفراد رفيعي الشأن، في المجالين الديني والدنيوي، وبالأحداث الدائرة حولهم، إلى التعبير عن دخائل الذات المبدعة ورؤيتها الشخصية لأشياء العالم الخارجي. وقد استمرّ هذا المنحى حتى اليوم، من الانطباعية إلى الرمزية إلى السوريالية إلى التكعيبية إلى الفن التجريدي.

لم يتوقّف هيغل عند هزيمة الألمان في معركة إيانا. ولم يتوقّف طويلاً عند ملايين القتلى الذين سقطوا في الحروب النابليونية، من مصر إلى أقاصي روسيا... كان ما يهمّه هو دور بونابرت في مجرى التاريخ. كما كانت رؤيته لبونابرت مختلفة كثيراً عن رؤية فلاسفة «التنوير» الفرنسيين. كان بنجامين كونستان، تلميذ مونتسكيو، يرى أن حراك نابليون، العدائيّ والطامح إلى الاجتياح والتوسّع، هو حراك قديم وخارج عصره، لأن التجارة باتت هي عنوان العصر وليست الفتوحات العسكرية. وقد كرّست الثورة الفرنسية الكبرى انتصار البرجوازية التجارية على المَلكية، وعلى الطبقة الأرستقراطية التي كانت تحتقر التجارة وتتمسك بقيم الفروسية الحربية. أما هيغل فكان يرى في نابليون «رجل الفعل» الذي «يحقق المطلق»، وهو بطل تاريخي في نظره لأنه يعرف «ما الضروري فعله في اللحظة المناسبة»، ولأنه يعي «الضرورة التاريخية» ويدرك حقيقة زمانه وحقيقة عالمه، وهو ليس بحاجة إلى مشورة أحد ليقوم بما يجب القيام به. فالفيلسوف هو رجل الفكر، ونابليون هو رجل الفعل.

تُرى كيف كان سينظر هيغل إلى «رجال الفعل» المعاصرين الكبار الأربعة: الأميركي دونالد ترمب، والصيني شي جينبينغ، والروسي فلاديمير بوتين، والهندي ناريندرا مودي، على رأس القوى العظمى الحالية الأربع؟ لم يكن هيغل ولا سواه من الفلاسفة الأوروبيين قادرين على تصوّر عالمنا الحاضر. حين ظهر علم الأنثروبولوجيا، مطلع القرن التاسع عشر، كان يرى العقل الأوروبي العالم على النحو التالي: الحضارة الصناعية الأوروبية المتطوّرة من جهة، ومن الجهة الأخرى سائر المجتمعات الموصوفة بـ«البدائية»، في مختلف أنحاء الأرض، ومن بينها الصين والهند، وإلى حدّ ما روسيا أيضاً. وها هي أوروبا تغادر صورة الأربعة الكبار، بعد انحسار سطوتها وحيدة الجانب على العالم، وسط حروب عظمى وتحولات جيو-سياسية وديموغرافية وتكنولوجية أغرب من الخيال. وفوق ذلك كله، باتت الأرض تحمل على سطحها من القوة النووية ما يمكِّن من تدميرها بضع مرّات. ينظر ترمب إلى الصين على أنها العدوّ الأخطر، في الحاضر والآتي، ويبذل ما في وسعه لاستمالة روسيا من جهة، والهند من الجهة الأخرى، لتطويقها. هل كان هيغل سيجد في رجال القدر الكبار الأربعة، قوة لتحقيق «الضرورة التاريخية» نحو مستقبل بشري أفضل، أم سيرى فيهم فرسان يوم القيامة الأربعة؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.