سليمان جودة
دارت السنة وعاد منتدى أصيلة الثقافي الدولي في موعده الخريفي، لكن غاب صاحبه الوزير محمد بن عيسى، لأن يد القدر كانت أسبق إليه. كان قد أطلق الموسم الخامس والأربعين من المنتدى في مثل هذه الأيام من السنة الماضية، وكان إحساس خفي يساوره وقتها بأن هذا هو موسم الختام في حياته.
ومن شدة ضغط ذلك الإحساس الخفي عليه، فإنه أسر به إلى بعض القريبين منه، ولم يكونوا يصدقون وهم يسمعون منه ما يرويه ويقوله، فلقد بدا لهم كأنه يرى آخر مشواره رأي العين، وما كادت أسابيع معدودة تمضي بعدها، حتى كان قد غادر وانصرف.
وحين أطلق المنتدى أعماله هذه السنة، جاء الذين كانوا حضوراً فيه من قبل، فاستقبلتهم أصيلة تذرف الدمع باكية على الرجل.. فلقد عاش يراها كل الدنيا في ناظريه. عاش يراها أجمل المدن رغم أنه طاف الشرق والغرب وزيراً وسفيراً، وكان يستثمر فيها عاماً بعد عام من العمل الثقافي الأهلي ما جعلها اسماً له رنين بين المدن.
كان إيمانه أن الثقافة خبز يأكله العرب كافة فلا يعافه أحد منهم، وكان يرى الثقافة بمعناها الشامل الذي يضم تحت مظلته كل ما يرتقي بعقل الإنسان وذوقه معاً، وكان يرى الحوار حلاً سحرياً لأي أزمة تطرأ بين طرفين، ولا فارق بعد ذلك بين أن يكون الطرفان فردين أو جهتين أو دولتين، أو حتى حلفين على امتداد العالم واتساعه.
عاش الرجل يرى مائدة أصيلة تتسع لكل مدعو، وتستوعب كل مشكلة، وتحتوي كل أزمة، وتحتضن كل خلاف، ولماذا لا تتسع أو تستوعب أو تحتوي أو تحتضن، وهي قد رفعت الحوار شعاراً لا ترى له ولا عنه بديلاً على كل طاولة؟
لم يشأ منذ الموسم الأول أن يجعل منتداه مغربياً، رغم أن المنتدى نبت وعاش فوق أرض أصيلة المغربية، ولكنه، يرحمه الله، أراده منتدى ثقافياً دولياً، فكان المتابع لأعماله يجد فيه للقارة السمراء مكاناً محفوظاً، وللعرب نصيباً لا يغيب وللدائرة الإسلامية الأوسع حصة لا تتخلف، وللعالم من حول هذا كله رغيفاً لا بد منه ولا بديل عنه.
وهكذا بقي المنتدى على مدى مواسمه المتتالية وسنواته الممتدة يضع الأثر فوق الأثر، فكان لا بد أن يتحقق له التراكم الذي يضمن العيش والبقاء.
تأملت مسيرة المنتدى التي قاربت النصف قرن، فلم أجد لها مسيرة مماثلة في المنطقة من حولنا، ولا حتى خارج منطقتنا، وإلا فهل هناك منتدى ثقافي عاش يقدم طعامه لجمهوره ما يقرب من خمسين سنة بغير انقطاع؟ كان ظني دائماً أنك إذا بحثت عن صورة توجز حياة ذلك الرجل، فمن الممكن أن تجده أشبه بالمدينة متعددة الأبواب، وتستطيع إذا سلكت أياً منها أن تصل إليه، فمن باب الصحفي في بداية حياته في صحبة الملك محمد الخامس في طنجة تجده وتصل إليه، ومن باب البرلماني تجده في برلمان المغرب وتصل إليه، ومن باب الوزير على رأس وزارة الثقافة تصل إليه، ومن باب السفير في واشنطن تصل إليه، ومن باب الوزير للمرة الثانية على رأس الخارجية تصل إليه، ثم من باب أصيلة وهو يوظف مجمل التجربة في خدمة جمهور المنتدى في المدينة وخارجها تصل إليه.
وإذا بحثت عنه في مضمار العمل الثقافي الممتد فسيسعفك ولا يخذلك، لأنه استطاع أن يسبح في بحر الثقافة العميق ما يقرب من نصف القرن، وليس من المبالغة في شيء أن يوصَف السباح القادر مثله على أن يواصل سباحته لهذا المدى الطويل، بأنه بطل في سباحة المسافات الثقافية الطويلة.
ولكن كان هناك ما هو أهم من ذلك، وكان هذا الأهم أنه استطاع أن يحول الثقافة من طعام اشتهر بأنه للنخبة وحدها، إلى غذاء يتداوله آحاد الناس، وتستطيع أن تجد ذلك في أبناء أصيلة أنفسهم الذين كانوا شركاء في المنتدى كل سنة، لا متفرجين ولا متطلعين من بعيد، أو تجده في جمهور أصيلة خارجها ممن كانوا يشاركونها هموم موسمها في كل موسم جديد.
وكان مما أتم هذه المعاني كلها في موسم هذه السنة، أن يقف الأستاذ حاتم البطيوي، الأمين العام الجديد للمنتدى، ومعه حشد من أهل وضيوف أصيلة، ليزيحوا الستار عن لوحة على باب القاعة الكبرى في مكتبة الأمير بندر بن سلطان في المدينة، كانت اللوحة تحمل صورة محفورة للراحل الكريم، ومعها عبارة تقول: فضاء محمد بن عيسى للثقافة والفنون.
فكأن القاعة الكبرى في مكتبة الأمير بندر قد صارت فضاءً لا يكاد يحده سقف، وكأن أصيلة من حول المكتبة قد تحولت بدورها إلى فضاء رحب، وكأن المنتدى قد أسس على تتابع مواسمه لفضاء نحن أحوج ما نكون إليه في عالمنا المعاصر الذي يستدعي كل وسيلة إلى حل مشكلاته، إلا أن تكون هذه الوسيلة هي فضاء الحوار.
يرحم الله الرجل الذي قضى عمره يؤمن بأن الثقافة وسيلة للارتقاء بالإنسان وتنميته وتحسين أحواله، ولم يكن يؤمن بذلك فقط، ولكنه كان ينقل إيمانه إلى حيث يعيش الناس، وإلى حيث يصادف ما يؤمن به ترجمته العملية على الأرض في واقع الحال.