لا يخفى على المتأمل في خريطة العلاقات الدولية أن بعض التحالفات تُبنى على المصلحة، فتتغيّر بتغيرها، وتذبل إن جفّت منابع النفع المشترك. ولكن ثمة علاقات، قلّما توجد في دنيا السياسة، تُبنى على الصدق قبل الصفقات، وعلى الوفاء قبل الاتفاقات، ويُروى جذعها من ينابيع التاريخ، وتُسقى أوراقها من دموع المحبة الصادقة، لا من مداد الحبر السياسي العابر.
هكذا هي العلاقة بين المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان الإسلامية.
علاقة لا تُقاس فقط بعدد الوفود المتبادلة، أو بتكرار الكلمات البروتوكولية في القمم الرسمية، بل تُقاس بنبض الشارع في كِلا البلدين، وبصوت المُحب الذي يهتف من قلبه: "السعودية باكستان، وباكستان السعودية".
تشرفتُ قبل عقدين من الزمن بأن أكون ضمن الوفد السعودي الذي زار إسلام أباد في مناسبة وطنية خالدة. لم أكن أظن أن ما سأراه في تلك الأيام الخمس سيُخلّد في ذاكرتي كأنّه حدث الأمس.
فما رأيته في عيون عشرات الآلاف من الإخوة الباكستانيين الذين احتشدوا احتفالًا باليوم الوطني السعودي، لم يكن احتفاءً بضيف، وإنما كان استقبال أخٍ لعائدٍ طال غيابه.
تلك الأيام كانت كأنها عيد مشترك، ازدانت فيه الساحات بالفلكلور الشعبي، وتزيّنت الأرواح بحب لا تصطنعه اللغة.
وفي لحظة رمزية لا أنساها، قال سفير خادم الحرمين الشريفين آنذاك، الأستاذ علي بن عواض عسيري، عبارته التي تجاوزت حدود المجاملة الدبلوماسية لتسكن في الوجدان:
"السعودية باكستان، وباكستان السعودية".
قالها بالعربية والأوردية ليؤكّد أن العلاقة بين البلدين لا تحتاج إلى ترجمان.
ويأتي اليوم، بعد عقدين من تلك الذكرى، توقيع اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك بين المملكة وباكستان، لتكون التجسيد العملي لتلك الأخوّة التي طالما عبّرت عنها المشاعر الشعبية، وجاء الوقت لترسيخها بأركان صلبة من التعاون العسكري والتنسيق الأمني.
الاتفاقية التي وقّعها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ورفيقه في الرؤية والسيادة رئيس الوزراء الباكستاني، جاءت ببنود لا تحتمل التأويل:
أمن البلدين واحد.
الردع مشترك.
والاعتداء على أحدهما، هو في عرف الاتفاق، عدوان على كليهما.
إنها كلمات تقوم على ميثاق شرف بين بلدين يجمعهما التاريخ ويوحدهما المصير.
وفي تأكيد واضح، جاء تصريح وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، ليُعلنها دون مواربة:
"السعودية وباكستان.. صفًا واحدًا في مواجهة المعتدي.. دائمًا وأبدًا".
ما بين مشاعر جماهير إسلام أباد في ذلك اليوم الوطني، وبين التوقيع على اتفاقية دفاع مشترك في 2025، تسير العلاقة السعودية–الباكستانية في خط بياني صاعد، عنوانه الوفاء، والتكامل، والثقة المتبادلة.
التحالفات تُبنى أحيانًا في غرف مغلقة، لكن هذا التحالف كُتب في ساحات المحبة، وعلى جدران الوجدان.
فهل بعد هذا البيان بيان؟
وهل بعد هذا الوفاء من وفاء؟
كلا، فالعلاقة التي تُولد من رحم الأخوّة الصادقة، لا تموت، بل تُزهر مهما تغيرت فصول السياسة.
إنَّ اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان إعلان صريح أن العلاقات الحقيقية لا تُبنى بالمصالح وحدها، وإنما تقام على الدم، والعرق، والذكريات.
وبينما يموج العالم بتحالفات هشة، تنبت في أرض الرمل وتذروها رياح التغير، تثبت السعودية وباكستان أن التحالف الذي تُسقيه القلوب، لا تجرفه العواصف.