في زحمة الأفكار، وسرعة الحياة، وصراع الأنا على من اخترع الفكرة أو نسبها لنفسه، يضيع الجوهر الأهم: كيف نتعامل مع هذه الحياة بعقلٍ هادئ وروحٍ متزنة. كثيرًا ما شعرت بالخذلان حين سُرقت أفكاري أو نُسبت لغيري، ثم أُلهمت بما قاله أحمد مكي في مشهدٍ سينمائي أصبح أقرب إلى الحكمة الشعبية: "كبر الجي وروق الدي".
عبارة "كبر الجي وروق الدي" تأتي من فيلم كوميدي مصري شهير، حيث قالها الممثل أحمد مكي في سياق يعكس الحكمة الشعبية المصرية. "الجي" تشير إلى الجمجمة، أي العقل، و"الدي" إلى الدماغ، أي الحالة العاطفية. معًا، تدعو العبارة إلى توسيع الأفق الفكري وتهدئة الانفعالات، وهي دعوة تحولت إلى فلسفة حياة يمكن للجميع تطبيقها، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية.
الفكرة: سرّ الجمجمة والدماغ
قد تبدو العبارة في ظاهرها مجرد نكتة، لكنها في عمقها تحمل خلاصة تجارب الحكماء: أن يكون العقل هو البوصلة، والحكمة هي المعيار، والهدوء هو السبيل. إنها صدى لأصوات من التراث تدعو إلى "الحلم" و"الأناة" و"كظم الغيظ"، وتوأم لفلسفة رواقية قديمة ترى أن السعادة تكمن في السيطرة على ردود أفعالنا.
• كبر الجمجمة (التوسع الفكري): أي لا تجعل التوافه تُدخل إلى رأسك بسهولة. وسّع مداركك، وامنح نفسك مساحة لتفهم وتستوعب. إنه تشبث بالمعنى وترك للصغائر.
• روق الدماغ (التروي العاطفي): أي لا تعش في قلق مستمر أو انفعال دائم. راقب الأحداث بعينٍ هادئة، وخذ قراراتك بعد روية. إنه تطبيق عملي لمبدأ "الوعي الكامل" (Mindfulness) حيث نراقب مشاعرنا دون أن نغرق فيها.
بهذه الثنائية – التوسع في الفكر + التروي في المشاعر – نصنع معادلة الذكاء الوجودي: التصرف بحكمة.
لقد واجهتُ مرارًا مشاعر الغضب حين أجد فكرتي وقد استُخدمت بغير إسناد لي، لكنني تعلمت أن أسلّم أمري لله وأعتبرها "تحصيل حاصل". فالواقع أن الفكرة التي تخرج للنور وتجد من يلتقطها ليست ملكًا لأحد وحده، بقدر ما هي ميراث مشترك للبشرية. المهم ليس من قال أولًا، بل من جعلها تنبض بالحياة.
وهنا تأتي فلسفة "كبر الجي وروق الدي": أن تتجاوز صغائر النزاعات، وتظل منشغلًا بما هو أعمق – بتطوير فكرك، وإثراء حياتك، وتربية روحك على الهدوء.
كيف تترجم هذه الفلسفة على أرض الواقع؟
· في الخلافات الأسرية: بدلًا من الصراخ حول "من المخطئ"، (كَبِّر جيك): اسأل "ما الهدف الأكبر؟ الإصلاح أم الانتصار؟". ثم (رَوِّق ديك) : تنفس بعمق عشرة أنفاس قبل الرد.
· في العمل وصراع الفضائل: حين يتسابق الزملاء على الانتصارات الصغيرة، اجعل عملك شاهدًا عليك. وعندما تواجه مشكلة معقدة، (كَبِّر جيك) : ابحث عن الخيارات البديلة وليس الحل الأول. (رَوِّق ديك) : لا تتسرع في إرسال ذلك البريد الإلكتروني الحاد. امنحه ليلة، عد له بذهن صافٍ.
· في مواجهة الصدمات والأخبار المزعجة: غريزتنا الأولى هي الذعر. هنا يأتي دور "الترويق". (رَوِّق ديك) : تقبل الصدمة وقل "هذا حدث الآن، ما خطوتي التالية البسيطة؟". ثم (كَبِّر جيك): ابحث عن حلول أو طرق للتكيف بدلًا من البقاء في دوامة السؤال "لماذا أنا؟".
· في السياسة والمجتمع: بدلًا من الانجراف وراء خطاب عاطفي، (رَوِّق ديك) : لا تتفاعل فورًا. (كَبِّر جيك) : تمهل، وابحث عن المعلومات من مصادر متعددة قبل أن تتخذ موقفًا.
· في مواجهة التحديات العالمية: عندما تواجه أخبارًا عن أزمات مثل التغير المناخي أو الصراعات الدولية، قد تشعر بالعجز. (كَبِّر جيك): ابحث عن طرق للمساهمة بحلول صغيرة، مثل تقليل استهلاكك الشخصي أو دعم مبادرات مستدامة. و(رَوِّق ديك): لا تدع القلق يشلّك، بل ركز على ما يمكنك التحكم به، مثل نشر الوعي أو اتخاذ خطوة عملية واحدة.
· في تعزيز السلام الداخلي: عندما تشعر بثقل الهموم، (كَبِّر جيك): خصص وقتًا يوميًا للتأمل أو قراءة نصوص ملهمة تذكرك بقيمتك ومعنى وجودك. ثم (رَوِّق ديك): مارس تمارين التنفس أو الصلاة لإعادة الاتزان إلى قلبك، مما يساعدك على مواجهة التحديات بروح متجددة.
هذه الفلسفة ليست دعوة للانسحاب أو اللامبالاة أو كبت المشاعر. على العكس تمامًا، إنها "حكمة نشطة". إنها الاعتراف بالمشاعر السلبية ولكن اختيار الوقت والطريقة المناسبين للتعامل معها، وليس أن تتحكم هي بك. إنها استخدام العقل كمرشد والقلب كموازن، وليس العكس.
إنها باختصار: أن تكون سيد الموقف، وليس عبدًا لردود أفعالك.
الحياة قصيرة، والمواقف كثيرة، والضجيج لا ينتهي. لكن هناك دائمًا خيار: أن تُستَفَز وتغرق في الانفعال، أو أن تكبر الجي وتروق الدي. إنها ليست مجرد عبارة عابرة في فيلم كوميدي، بل فلسفة عملية عميقة لو أحسنا فهمها وتطبيقها.
تبقى كلمات "مرجان" خريطة طريق يمكن لكل منا أن يعود إليها عندما تشتعل به الحياة. هي تذكير دائم بأن أكبر مساحة نحتاج إلى توسيعها هي مساحة عقولنا، وأفضل مشروب يمكن أن نهدئ به أنفسنا هو مشروب التروي والصبر.
في المرة القادمة التي تجد فيها نفسك في موقف يثير غضبك أو حيرتك، توقف للحظة، وأهمس لنفسك: "كبر الجي.. وروق الدي". ما الموقف الذي ستطبق فيه هذه الفلسفة أولًا؟ جربها، وستجد أن الإجابات ستأتي أوضح، والقرارات ستكون أحكم، وحياتك بأكملها ستسير بخطى أكثر ثباتًا وهدوءًا.