: آخر تحديث

"جينوسايد" آخر بحق كردستان

1
1
1

بحسب اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية لعام 1948، لا يقتصر مفهوم الجينوسايد على القتل المباشر لأفراد جماعة قومية أو دينية أو إثنية، بل يشمل كل فعل يرمي إلى تدمير جماعة قومية أو إثنية أو دينية كلياً أو جزئياً. وتشمل الأفعال المندرجة تحت هذا التعريف:

- القتل البدني.

- إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بأفراد الجماعة.

- إخضاع الجماعة لظروف معيشية يراد بها تدميرها كلياً أو جزئياً

- فرض تدابير تهدف لمنع النمو الثقافي والاجتماعي أو تفكيك الهوية.

وبذلك، فالجينوسايد لا يعني فقط سفك الدماء أو ارتكاب المجازر، بل يمتد أيضاً إلى الحصار الاقتصادي والتجويع، وإلى تدمير الثقافة والذاكرة الجمعية، عبر حرمان الشعوب من مقوماتها الأساسية في الحياة.

منذ عام 2014، ومع تصاعد الأزمات الأمنية والمالية في العراق، شهد إقليم كردستان قطعاً أو عرقلة لرواتب موظفيه، بينما استمرت بغداد بصرف الرواتب لبقية أبناء الشعب العراقي. هذه الممارسة جاءت بعد الوعكة الصحية للرئيس مام جلال طالباني عام 2012، وما تبعها من فراغ سياسي حتى رحيله في 2017، حيث فقدت الساحة صوتاً وطنياً جامعياً كان يسعى إلى التوازن والتوافق بين بغداد وأربيل.

إنَّ حرمان مئات آلاف الأسر الكردية من رواتبها لشهور وسنوات طويلة لم يكن خلافاً مالياً محضاً، بل ممارسة تركت آثاراً اجتماعية واقتصادية عميقة:

- تجويع الأسر وزعزعة استقرار البيوت.

- ارتفاع معدلات البطالة، وتزايد هجرة الشباب.

- تعطيل المؤسسات التعليمية والثقافية.

- إضعاف النسيج الاجتماعي العام.

هذه النتائج تتقاطع بشكل مباشر مع أحد أركان تعريف الجينوسايد، وهو إخضاع جماعة قومية لظروف معيشية تهدف إلى تدميرها جزئياً.

وبالرغم من أنَّ الحكومات الاتحادية المتعاقبة أكدت أكثر من مرة التزامها بحلول جذرية، إلا أن التنفيذ ظل يراوح مكانه، ما جعل المسألة تبدو وكأنها سياسة ممنهجة أكثر من كونها أزمة عابرة. نعم، لا يمكن إنكار وجود قصور من جانب أطراف كردستانية في متابعة هذا الملف بجدية، لكن ذلك لا يمنح أي مبرر لمعاقبة شعب كامل بحرمانه من أبسط حقوقه المعيشية.

إنَّ التعامل مع لقمة العيش كسلاح تفاوضي يضعف الثقة الوطنية، ويهدد أسس التعايش، ويعيد إنتاج ذهنية الماضي القائمة على التهميش والتمييز. ولذا، فإن هذه القضية تحتاج إلى حس وطني مسؤول يتجاوز الحسابات السياسية الضيقة، وينظر إلى كردستان كجزء أصيل من العراق، له حقوق دستورية ثابتة ينبغي احترامها.

إننا أمام لحظة فارقة تتطلب من الجميع – في بغداد وأربيل على السواء – أن يرتقوا إلى مستوى المسؤولية الوطنية. فمصير العراق لا يُبنى بالحصار والعقوبات الداخلية، بل بالثقة والشراكة والالتزام بالدستور.

إنَّ إطلاق الرواتب دون قيد أو شرط سياسي هو واجب وطني وأخلاقي، وهو الخطوة الأولى لاستعادة الثقة بين مكونات البلد، ووحده هذا المسار يمكن أن يضع العراق على طريق الاستقرار، ويُخرج العلاقة بين المركز والإقليم من دائرة الشك والعداء إلى فضاء الشراكة الحقيقية.

ينبغي التصدي لهذه العقلية السقيمة التي ترى في قطع الميزانية والرواتب السبل الأنجع لإدارة العلاقة، وتبحث عن أبسط ثغرة لوقف أو تأخير رواتب كردستان. فبعد أيام سيُعطي مجلس الوزراء الاتحادي توجيهاته بصرف رواتب الشهر التاسع لموظفي العراق، باستثناء كردستان، التي ما زال موظفوها ينتظرون رواتب شهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس)، ناهيكم عن راتب أيلول (سبتمبر). هذه المفارقة تكشف أنَّ القضية لم تعد مرتبطة بعجز مالي أو إجراءات تقنية، بل بعقلية سياسية تتعامل مع حقوق شعب بأكمله كسلاح تفاوضي، وهو أمر لا يليق بدولة دستورية ولا بمشروع وطني جامع.

وبذلك، فإنَّ استمرار هذه السياسات لا يهدد كردستان وحدها، بل يضرب أسس التعايش وروح الدستور في العراق، ويعيد إنتاج عقلية الإبادة التي حاول العالم منذ 1948 أن يجعلها جريمة لا تسقط بالتقادم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.