عاشت سوريا، في معظم محافظاتها ومدنها، سنةً من المظاهرات والحراك الشبابي الحالم بحياة أفضل وبلد أجمل ونظام سياسي مدني ديمقراطي، يليق بها وبشعبها ويروي تطلعاتهم نحو مستقبل بهيّ منتظر. لكن شاءت الأقدار أن تجري الرياح بما لا تشتهي سفن أحلام هذا الشباب؛ فأعقب ذلك ثلاث عشرة سنة من الحرب والاقتتال، والصراع على السلطة وحكم البلد. قُتل مئات ألوف الضحايا: من رجال ونساء وأطفال، وكان لريعان الشباب حصة الفاجعة الأكبر.
يكاد لا يخلو بيت من مأساة: فقيد، أو تهجير، أو سجين. ولا يوجد سوري لم يفقد عزيزاً بإحدى طرائق الفقد وطرقه المتسلطة على مصائر شعب هذا البلد، والمتسللة: من منافذ الخراب والحرب، ومن فوهات البنادق، ومن سماء الطائرات، ومن متاهات النزوح، ومهارب اللجوء ووديانها وغاباتها، وفي غياهب البحار وعلى شطآن النجاة، أجساداً طافية وجثثاً منتفخة بالماء المالح، جاءت تنشد الارتواء بعذب الاغتراب، فلم يسعفها قدرها قيد رمق على بعد أنفاس من الحياة، ولم تقترب تلك الشواطئ بضعة أمتار تدفع بها آجالهم أو تشاغلها، لتمنحهم حقهم من الخلاص بعمر جديد، بدلاً من ضياع بعض أجسادهم وتناهش ملامحهم وتقاسمها بين بطون أسماك البحر المضيفة. فليس لهم ولا لكثير غيرهم، أُخذوا من طرق وطرائق أخرى، ليس لهم ولو ميراث من شاهدة قبر وتركة أشلاء تبقى بعدهم لذوي مفجوع وحبيب ينتظر وعزيز يعلل النفس ببقايا الجسد.
فمن لم يمت في المعركة مات بغيرها وهو يفرّ منها. سنوات من الكارثة والنواح والفواجع والضياع وانتهاك الأعراض، حتى انتهت بسقوط نظام الأسد، وظن الناس أن الموت قرر أن يتوقف ويغادر، لتصير غرامتهم منه مثل غيرهم من بلاد الله الآمنة. هُزم النظام وهُزم جيشه ومن كان يؤيده ويصطف إلى جانبه، وانتصر خصومه، واستعاد الشعب أمله بالخلاص والشروع بحياة جديدة.
كان في سقوط النظام ودخول المعارضة دمشق على هذا النحو الذي شهده العالم أجمع، كان فيه إعلان عن عهد جديد تكون فيه الشهادة من نصيب ضحايا خصوم النظام فقط، في حين صار ضحايا جيش النظام قتلى وضحايا جريرة ظلمهم وعدوانهم. ووُصم ذاك النظام بعار تدمير سوريا وقتل أبريائها، ونُسبت إليه مثالب الطائفية والفساد ونهب الدولة وخيانة البلد.
لكن، بالرغم من آمال السوريين وتطلعاتهم، فالقتل لم يتوقف، وعاد واستعر الصراع من جديد، وحدثت مجازر جديدة، واستجدت حالات اغتصاب واختطاف وغيرها من المآسي والفواجع التي علل الناس أنفسهم بانتهائها وانقضاء مسبباتها. ولم تستطع سلطة العهد الجديد إلى اليوم تلافي هذه الكوارث.
على هذه الحال ما زال يسير قدر هذا البلد، وبعيداً عن الأيادي الدولية المتحكمة بمصيره ومآلاته، فإن ما حصل من مجازر وغيرها بعد سقوط النظام ستكون له عواقبه الكارثية وخيباته الإنسانية وخساراته المعنوية على ضحايا الحرية؛ على الذين قُتلوا في السجون والمعتقلات، وعلى المدنيين الآمنين في بيوتهم حين باغتتهم قنابل الموت وبراميل المنية، وعلى السياسيين الذين ضاعت معظم أعمارهم في سجون الاستبداد وغياهبه... هذا سيكون للأسف، وهذا نصيبهم من النصر ومن سقوط النظام. بيد أنه ربما يكون في هذا أثر من يد القدر وحكمة الغيب، قد يلمحه من حاول أن يتسلح بشيء من عدة عيافة العرب – إن صح التشبيه والتشبه – في تتبع الأثر:
بدأ في سوريا حراك سلمي مدني، قاده شباب يؤمن بقيم العصر وأخلاقياته ويريد أن يسير ببلده في ركب الحضارة وضمن قافلته. ثم ما لبثت يد الأطماع والمصالح تتسلل رويداً رويداً، حتى تسلطت على هذا الحراك واختطفته من شبابه الحالم، وبعد أن كان أمل هذا الشباب بالتغيير واندحار الاستبداد وإغلال قبضته قاب قوسين أو أدنى من قابي قوس، وصار زوال النظام بين صباح ومساء، بعد هذا كله استحال الواقع فجأة سلاحاً واقتتالاً، وظهرت قوى ترى شرعيتها في سلاحها لا في نهجها وقربها من الشعب. وبات الشعب على الطوى، لا قيمة له ولا مكان معتبراً من أطراف الصراع يمكن أن يحصله. وبالرغم من أن الجميع يصيح باسمه ويدعي تمثيله فإن الواقع خلاف ذلك. وصار النظام قوة من القوى المتصارعة وليس بوصفه دولة ونظاماً، بالرغم من كل محاولاته ليكون الدولة، وبالرغم من كل ما كان يتهم به القوى الأخرى وينكر عليها ثوريتها ويرميها بالعمالة والارتهان للخارج وأنها أداة ووسيلة رخيصة لتفتيت البلد وتمزيقه وتمرير مخططات خبيثة. بالرغم من ذلك كله ومن محاولته نفي طابع الحرب الأهلية التي أمست توصيفاً دولياً شائعاً لما يجري في البلد – وحقاً كان جيشه من كل مكونات الشعب السوري، ومؤيدوه كذلك الأمر – بيد أنه لم يعد يستطيع أن يكون بالقوة التي تجعله يمثل الدولة، ولم يستطع أن يتجنب الوقوع في براثن الطائفية والحوم حول حومتها، واستشرى الفساد وفقدت الدولة شيئاً كبيراً من معاييرها الأخلاقية، وآيست الناس من الثقة بالقانون والضوابط المؤسساتية، حتى بات حقاً في وجدان الناس ونظرهم أن هذا النظام ليس أكثر من طرف من أطراف الصراع والاقتتال الذي يجب التحرر منه، مثله مثل بقية القوى الأخرى. هكذا سُرق حلم جيل الحرية واختُطف مشروعهم الثوري الكبير على يد اللصوص من مقترفي السلاح وتجار الأيديولوجيات وأدوات المطامع الرخيصة. وبعد أن كان الحلم على بعد خطوة من يدهم، سُلب ثلاث عشرة سنة، وسلب معه أرواح مئات الألوف من الأبرياء، الذين كان ربما – لو شاء الله – أن يعيشوا ليروا وينعموا بما حلم به الحالمون.
لكن هذا لا ينفي المصداقية والنية الوطنية السليمة التي تحرك كثيرين ممن حملوا السلاح، سواء أكانوا معارضة أم جيشاً في صفوف النظام. لقد ضحى كثيرون بحياتهم انطلاقاً من نية صادقة ترى أنها تدافع عن وطن وتريد استعادته من الاستبداد، أو الحفاظ عليه من يد التمزيق والضياع. فكم من أم وأب وأخ وزوج وقريب وعزيز مفجوع بفقد فقيد وهب روحه طاهرة لوجه الله ودفاعاً عن تراب بلاده وأمنها وسيادتها...! نصف هنا ونصف من هناك، فلكل نادبة من هذا الطرف نائحة من الأطراف الأخرى، ولكل ثكلى من هنا أرملة من هناك، وخصم كل يتيم يتيم مقابل، كلهم ضحى وفقد، وفقد وفُجع؛ فكأن الأقدار شاءت أن لا تُشيّد دماء على حساب دماء أخرى، وألا تحظى أم بعزاء شهادة الشهادة لابنها، مقابل إجبار أم سورية أخرى على حبس دموعها أو إغلاق بابها عليها حين تفقد وليدها لأنه صار في سجلات البلد قتيلاً غير شهيد. لعل الله لم يشأ أن تُرفع صور ضحايا طرف وتخفى صور ضحايا طرف آخر، ولعل الله أذن للأمهات والزوجات والأخوات والحبيبات والمكلومات جميعاً أن ينحن ويندبن ويتقاسمن البكاء والدموع.
بلى، هذا ما تذهب إليه البلد، فلن يعود بعد هذه المرحلة العابرة ضحية وقاتل، ضحية وجلاد، ولا ظالم ومظلوم؛ كلهم ضحايا؛ فدفع الثمن من دفع وقبض من قبض، وتألم من تألم وجنى من جنى... والمواجع قصاص في سلة واحدة... صفحة جديدة لتاريخ جديد، وطي مآسي الماضي وسجل فواجعه على من كسب بما كسب، ومن خسر بما خسر، وعلى من اقتُص له ومن هُدر دمه وحقه بين المهدورين وفي شلال الدماء المهدور من جسد هذا البلد ومهجة فؤاده.
يجب أن تنهض سوريا، والتاريخ كفيل بإنصاف الجميع، ظالمين ومظلومين. حتى الأسدان؛ فلهم على التاريخ حق إنصافهم: أين أصابوا وأين أخفقوا؟ أين قدّموا وأين أخذوا؟ أين جنوا وأين جُني عليهم؟ ماذا صنعوا بسوريا وماذا صنعت لهم وبهم؟... المهم أن تكون هناك صفحة جديدة يفتحها أبناء هذا البلد وشبابه ليخطوا عليها تاريخاً جديداً من مستقبل بلدهم وسورياهم.