شهدت سوريا في كانون الأول (ديسمبر) 2024 حدثاً تاريخياً مفصلياً تمثل في سقوط نظام الأسد الذي حكم البلاد لأكثر من خمسة عقود. هذا التغيير الجذري لم يكن مجرد انقلاب عسكري بل نتيجة لتضافر جهود داخلية وخارجية مكثفة وتفكيك منهجي لبنية سلطة شمولية، ومع أن هذا الانتصار يمثل نهاية حقبة إلا أنه يطرح تساؤلات عميقة حول ما الذي سقط فعلاً وما الذي لا يزال قائماً وكيف ستتشكل ملامح "سوريا الجديدة" في ظل التحديات المعقدة.
لقد كان سقوط نظام الأسد تتويجاً لمسار طويل من الصراع والتضحيات، ولم يكن هذا الحدث معجزة بل إنجازاً جماعياً ساهمت فيه أطراف متعددة سواء من الداخل أو الخارج. ولقد تمثل هذا الانتصار في تفكيك بنية نظام شمولي وراثي استمر لخمسة عقود تمكنت فيه قوات المعارضة المسلحة من فرض سيطرتها على دمشق ومعظم الأراضي السورية مما أدى إلى فرار الرئيس المخلوع بشار الأسد.
ما الذي سقط؟
بسقوط النظام انهارت ركائز عدَّة أساسية كانت تقوم عليها الدولة السورية سابقاً، وهي انهيار حكم العائلة الذي كان يمثل مركز السلطة الشمولية، كما تم حل مؤسسة حزب البعث التي كانت تمثل العمود الفقري للنظام وتم منع إعادة تأسيسه، كما تم إسقاط السلطة الشمولية من خلال إلغاء قوانين الطوارئ وحل البرلمان السابق مع إعلان فترة انتقالية تهدف إلى تأسيس نظام سياسي جديد.
ما الذي لم يسقط بعد؟
بالرغم من التغييرات الجوهرية، لا تزال هناك تحديات عميقة لم تسقط بعد وتشكل هذه التحديات عقبات أمام بناء الدولة الجديدة. ومن هذه العقبات: أولها القوى فوق الوطنية إذ لا يزال النفوذ الإقليمي والدولي لقوى مثل إسرائيل وروسيا وتركيا ودول أخرى مؤثراً بقوة في المشهد السوري، وثانيها الفساد المؤسسي حيث لا تزال شبكة الفساد والولاءات المتجذرة في هياكل الدولة تشكل عائقاً أمام بناء مؤسسات شفافة وعادلة، وثالثها غياب الوطنية الجامعة إذ تتطلب سوريا تجاوز الانقسامات الإثنية والقومية والطبقية لبناء هوية وطنية حقيقية.
جذور النظام الشمولي وإرث التدخلات الإقليمية
كان النظام الشمولي يعتمد على أسس معينة مكنته من البقاء لعقود. هذه الأسس بالإضافة إلى التدخلات الإقليمية تركت بصمات عميقة على المشهد السوري ولا تزال تحدياتها قائمة. ولفهم تحديات النظام الشمولي لابد من معرفة أسسه التي ترتكز على الأسطورة والريع وشبكة التضامن، حيث قام النظام البائد على عدة مرتكزات لتعزيز سيطرته. أولها الأسطورة والريع حيث استغل النظام أسطورة الاستقرار والريع الاقتصادي كأداة لتوزيع المكافآت وضمان ولاءات معينة. وثانيها شبكة التضامن إذ اعتمد النظام على علاقات شخصية وعشائرية قوية شكلت مناعة له وهي شبكة تحتاج إلى إعادة هيكلة لبناء تحالفات وطنية أوسع. أما ثالثها فكان للبلطجة الإقليمية حيث لعبت سوريا دوراً مهماً في صراعات إقليمية مثل حرب 1967 وتدخلاتها في لبنان عام 1976. هذه التدخلات بالإضافة إلى الاعتماد على "الكريدت" أو البعد الخارجي عززت السلطة الشمولية وشكلت جزءاً من الإرث الذي تواجهه سوريا اليوم.
بناء الدولة الجديدة
يتطلب بناء دولة جديدة في سوريا رؤية واضحة تتجاوز الصراعات الماضية وترسي أسس مجتمع مستقر وعادل. ومن هنا يجب أن تكون الدولة الجديدة كياناً حيادياً يقف فوق الانقسامات الإثنية والقومية والاقتصادية والطبقية، وهذا يتطلب أن تمتلك الدولة احتكار القوة وأن تضبط إيقاع النزاعات وتلتزم بالحياد وعدم الانجرار وراء مصالح خارجية أو محلية ضيقة.
السيناريوهات المستقبلية
يمكن تلخيص السيناريوهات المحتملة لمستقبل سوريا في ثلاثة محاور رئيسية:
1- الوحدة الوطنية: تتطلب توافقاً شاملاً يربط بين مختلف الأطراف لبناء وطن موحد مع دعم إقليمي ودولي.
2- النموذج الاقتصادي المستدام: ضرورة الإصلاح الاقتصادي الذي يدعم التنمية والاستقرار، ويتجاوز آثار العقوبات الدولية.
3- إدارة العقوبات والعلاقات الدولية: التعامل مع تأثير العقوبات وكيفية إدارتها أو تخفيف آثارها، بالإضافة إلى تحديات العلاقات الدولية المتغيرة.
التحديات والمخاطر
بالرغم من الأمل في مستقبل أفضل تواجه سوريا الجديدة تحديات ومخاطر كبيرة قد تعيق مسيرة البناء والاستقرار. من أهم هذه العوامل:
1- "مكسر العصا": يشير هذا المصطلح إلى القوى أو العوامل التي تهدد وحدة الدولة واستقرارها مثل استمرار الحرب بالوكالة والصراعات بين القوى الدولية في سوريا.
2- "أمراء الحرب": قد يقوم أمراء الحرب باستغلال الفوضى وغياب السلطة المركزية لتحقيق مصالحهم الخاصة، ومع انقسام سوريا إلى مناطق سيطرة فصائل مختلفة تزداد قوة أمراء الحرب الذين يقيمون سلطاتهم في مناطقهم مما يعيق الوصول إلى تسوية سياسية شاملة.
3- التدخل الخارجي المستمر: يظل التدخل الإقليمي والدولي معقداً للأوضاع السياسية والاقتصادية وقد يؤدي إلى تفاقم النزاعات.
الطريق إلى المستقبل
يبقى السؤال الجوهري: هل يمكن للسوريين أن يعيشوا معاً بعد هذه المرحلة؟ الإجابة تكمن في القدرة على إطلاق الطاقات الوطنية الحضارية وبناء توافق حقيقي. فالوحدة والتعايش لا بديل عنهما، إذ تتطلب هذه المرحلة إطلاق الطاقات الكامنة لدى الشعب السوري والبحث عن القوة الحقيقية في الوحدة والتوافق. فالوطنية والتعايش لا بديل لهما لضمان مستقبل آمن ومستقر لسوريا الجديدة يتجاوز الانقسامات القديمة ويبني دولة ديمقراطية متماسكة.
خاتمة
خلاصة القول إنَّ سقوط نظام الأسد في سوريا يمثل تحولاً تاريخياً مهماً لكنه ليس نهاية المطاف، فبينما انهارت هياكل السلطة الشمولية التي حكمت البلاد لعقود لا تزال هناك تحديات عميقة تتمثل في النفوذ الخارجي والفساد المتجذر والانقسامات الداخلية. ومن هنا يتطلب بناء "سوريا الجديدة" جهداً جماعياً حقيقياً يرتكز على مبادئ الحياد والعدالة والوحدة الوطنية. إن الطريق إلى الاستقرار مزروع بالمخاطر من "أمراء الحرب" إلى التدخلات الخارجية، ولكن الأمل يكمن في قدرة الشعب السوري على إطلاق طاقاته وبناء مستقبل يسوده التعايش والسلام.