: آخر تحديث

الأهلي يتمسك بالخطيب

4
3
4

لم يكن إعلان محمود الخطيب، أسطورة النادي الأهلي ورئيسه الحالي، عن عدم الترشّح لدورة انتخابية جديدة، مجرد خبر إداري عابر، بل زلزالاً هزّ وجدان الجماهير وفتح سيل من الأسئلة. فالرجل الذي ارتبط اسمه بالأهلي لاعباً وإدارياً ورمزاً تجاوز حدود المستطيل الأخضر، اختار أن يُعلن ابتعاده في لحظة بدت مفصلية، بعدما أنهكه المرض وفرضت عليه الظروف الصحية التوقف ولو مؤقتاً عن حمل أعباء المسؤولية.

الخطيب، الذي جاوز السبعين من عمره، صاغ قراره بلغة مؤثرة تعكس عمق التجربة وثقل السنين، فقال في بيانه: "منذ ثماني سنوات تعاهدنا أن نبقي الأهلي في القمّة، وأن نطوره على المستويات كافة. واليوم، وبعد دورتين انتخابيتين، أجدُ نفسي مضطراً للاعتذار عن عدم الترشّح مجدداً، مكتفياً بما تحقق من إنجازات كانت ثمرة عمل جماعي مؤسسي، لا فضل فيه لفرد وحده".

كلمات حملت صدقاً يوازي حجم التضحيات التي قدّمها، واعترافاً بأن القيادة في الأهلي ليست مقاماً للتشبّث بل رسالة تُؤدى بإخلاص ثم تُسلّم لمن يأتي بعدها.

لكن وَقْع البيان لم يكن سهلاً على مجلس إدارة النادي، الذي سارع في رد فعل حاسم إلى رفض فكرة ابتعاد الخطيب، سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل القريب.

في بيان مطوّل، أكد المجلس أن الأهلي بحاجة ماسة إلى قيادته، واصفاً إيّاه بالقدوة والمثل في التضحية والعطاء. وأضاف البيان: "نثمّن رحلة الخطيب التي تمتد لأكثر من خمسين عاماً، لاعباً وإدارياً ورئيساً، وما تحمله من آلام لأجل الوفاء بالعهد مع جماهير الأهلي وأعضائه. نؤكد في الوقت نفسه حقه في الراحة والعلاج متى شاء، لكننا نرفض غيابه، لأن وجوده ضرورة لمواصلة الإنجازات".

هكذا تحوّل الأمر إلى ما يُشبه جدلية بين رغبة شخصية في الانسحاب الهادئ، ونداء جمعي يطالبه بالبقاء. فالجماهير، كما المجلس، لم ترَ في قراره مجرد انسحاب إداري، بل شعرت وكأن رمزاً تاريخياً يلوّح بوداع قد يترك فراغاً عاطفياً ومعنوياً، لا يُملأ بسهولة. فالخطيب بالنسبة لهم ليس رئيساً منتخباً وحسب، بل امتداد لذاكرة ممتلئة بالبطولات واللحظات الخالدة التي شكّلت هوية الأهلي.

ما زاد المشهد تعقيداً أن توقيت البيان جاء في ظرف حساس. فالنادي لم يحسم بعد هوية المدير الفني الجديد، بعد إقالة الإسباني ريبيرو، فيما كانت تصريحات عضو المجلس حسام غالي قد أثارت جدلاً واسعاً، حين أشار إلى سلبيات في الإدارة الحالية وتحدث عن العودة إلى نهج صالح سليم متجاهلاً تماماً ذكر الخطيب. بدا وكأن كلمات غالي تعمّق الشرخ، وتُلقي بظلالها على قرار الرجل الذي يواجه ضغط المرض وضغط اللحظة معاً.

في المقابل، لم يتعامل الخطيب مع الموقف كزعيم مهزوم، بل كأب روحي يُذكّر أبناءه بوصية تتجاوز الأسماء والمناصب. فقد التقى لاعبي الفريق الكروي في ملعب مختار التتش، وقال لهم بعبارات صادقة: “كرة القدم ليست أسماء بل رجولة وأداء. الأهلي هو من يصنع الأسماء لا العكس. نحن جميعاً زائلون وسيبقى الأهلي. عليكم أن تحافظوا على الكيان وتقدّروا الجماهير، فالمستقبل بين أيديكم". كلمات تختزل فلسفته التي كرّسها طوال مسيرته: أن الأهلي فكرة تتجاوز الأشخاص، وأن القيم والمبادئ هي التي تحمي هذا الكيان العريق.

هذه اللحظة التي تجمع بين انسحاب الرجل وضغط الجماهير تكشف وجهاً إنسانياً للنقد والرمزية معاً.

قرار الخطيب، محاولة لمصالحة الذات مع الجسد المنهك، ومع قلق السنوات الأخيرة التي حمّلته فوق طاقته. لكنه، في وعي المجتمع الكروي، بدا وكأنه تخلٍ عن السفينة في منتصف البحر، وهو ما يُفسر تمسّك المجلس بوجوده، حتى لو اقتصر على الحضور الرمزي.

لقد مثّل الخطيب على مدار نصف قرن مرآة لقيم الأهلي: الانضباط، الإخلاص، التضحية، والتفاني في خدمة الكيان. إن رفض المجلس رحيله ليس مجرد موقف إداري، بل هو دفاع عن صورة الأهلي كما تجسّدت في شخصه. هو إدراك أن الرموز، وإن أنهكها المرض، تبقى قادرة على إلهام الملايين، وأن استمراره في القيادة يعني استمرار حالة من الطمأنينة داخل النادي.

ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يُسمح للإنسان أن يستسلم لحاجته الطبيعية إلى الراحة، أم أن الرمزية تفرض عليه الاستمرار حتى اللحظة الأخيرة؟

الخطيب في نهاية المطاف إنسان قبل أن يكون رمزاً، يَحق له أن يضع حدّاً للتعب ويصغي إلى صوت جسده. لكن الجماعة، بحكم العاطفة والانتماء، تراه ملكاً لها، وتتمسك به كدرع يحميها من قلق المستقبل.

لقد تحوّل الخطيب، في هذه اللحظة، إلى سؤال يتجاوز حدود الأهلي: سؤال عن معنى القيادة، وعن العلاقة بين الفرد والجماعة، وعن الثمن الذي يدفعه الرمز حين يصبح أسيراً لحب الجماهير. وربما تكمن قيمة هذه الأزمة في أنها تضعنا جميعاً أمام مرآة: كيف نوزّع الحب والوفاء؟ هل نُثقل كاهل من أحببناهم بمطالب لا تنتهي، أم نمنحهم حرية الانسحاب بكرامة؟

بين بيان الخطيب وبيان المجلس، تتشكل حكاية تتجاوز كرة القدم إلى ما هو أعمق: حكاية رجل قضى نصف قرن في خدمة ناديه، ثم وجد نفسه ممزقاً بين الجسد الذي يطلب الراحة والجماهير التي تطلب البقاء. إنها لحظة تتجاوز السياسة الرياضية لتلامس إنسانية عارية، حيث يُصبح القرار الشخصي قضية رأي عام، وحيث يختلط الألم بالفخر، والانسحاب بالخلود.

بقي أن نقول، سواء استمر الخطيب أم ابتعد، يبقى اسمه محفوراً في ذاكرة الأهلي وجماهيره. فقد أعطى ما يكفي من الجهد والعمر والحب ليظل رمزاً عصياً على النسيان. وربما يكون أصعب امتحان يُواجهه القائد هو أن يُعلّم الناس كيف يُغادر، لا كيف يستمر. وهنا، تتجلى عظمة الخطيب، حتى وهو يلوّح بالرحيل، كرمز يُذكّر الجميع أن الأهلي سيبقى، وأن القيم لا تموت، مهما تغيّرت الوجوه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.