: آخر تحديث
مجازر في قرى كردية في الساحل

إنهم يقتلون أحفاد المكزون السنجاري

3
5
4

إلى د. علي ولقمان طالب الطب سنة ثالثة نجلي صديقي المربي بهيج علي حسن وهما يختصران مأساة مجازرالساحل.


ثمة أصدقاء تترسخ أسماؤهم في الذاكرة، نتيجة وفائهم وإخلاصهم وتقبل رؤاهم، فلا يمكن للزمن أن يمحو آثارهم، ويفرحني أن لي الآن الكثير من الأصدقاء الذين تعرفت عليهم في محطات حياتية. منهم أبناء القرية، زملاء الدراسة، عوام كتاب، صحفيون، رفاق الحزب أو رفاق الموقف، الوجوه التي تعرفت عليها في مغترباتي: الدوحة، الشارقة، ألمانيا، ناهيك عمن تعرفت عليهم في مدن وعواصم كثيرة زرتها خلال سنوات عمري. لقد علق اسم بهيج حسن في ذاكرتي بعد أن تعارفنا في أواخر الثمانينيات وكان لنا أن نعيش معاً تحت سقف واحد بضعة أشهر. حدثني عن الكثير من رؤاه وخصوصياته:

أنا كردي الأصل.

ومست العبارة زر اهتمام كبير في قلبي وذاكرتي ووجداني، إذ رحت أسأله عن قرى الساحل وجبال الكرد هناك، والمكزون السنجاري، وأحدثه عن أصدقاء أوفياء في الساحل منهم صقر عليشي قبل أن أتعرف على كثيرين منهم محمد غانم، دانيال سعود ومفيد خنسة، وصار يساررني يحدثني عن رؤاه، عن الحياة في الساحل، وكيف أنه يُنظر إلى العلويين أنهم سلطة إلا أنهم في الحقيقة مفقرون، إذ كان نظام حافظ الأسد لا يهمه في سبيل تكريس حكمه ليكون وقفاً على عائلته إلى الأبد مهما كانت ضريبة ذلك.

انقطعت العلاقة بيننا بعد تلك المحطة التي جمعتنا، إلا أن اسمه ظل عالقاً في شباك الذاكرة: طيبته، إنسانيته، أخلاقه العالية، صدقه، وفاؤه. قال لي بعض من أعرفهم إنه يعمل في الخليج. ما إن بدأت العمل حتى سرعان ما سألت عنه إلا أنني فشلت. قبل أيام كتب الصديق بهيج حسن مسعود. ابن سويداء الكرامة، مقالاً، عني في صفحته، على الفيس بوك. و كان اسم بهيج ابن السويداء يحيلني إليه. إلى بهيج اللاذقي، كلما قرأت له، وحدث أمر جد غريب، عندما حاولت الاتصال ببهيج السويداء لأسأل:

هل تعرف بهيج صديقي ابن اللاذقية؟

كانت المفاجأة أن يكتب بهيج اللاذقي نفسه إليه مستفسراً كيف له أن يتواصل معي؟ كانت فرحتي جد كبيرة عندما سمعت صوته لأول مرة بعد ست وثلاثين سنة، وما إن سألته عن أحوال الأسرة. أحوال الأولاد. وعن نجله علي، اسم أبيه، حتى انفجر بكاء وهو يقول: لقد استشهد هو وشقيقه لقمان طالب السنة الثالثة ـ طب بشري. وكنت قد وثقت اسمي الشهيدين من دون أن أنتبه أنهما من أبناء صديقي. عاتبت أصدقاء لي في الساحل لم لم يعلموني بذلك؟

بحثت في وسائل التواصل عن  تفاصيل وكيفية استشهاد الدكتورين المدنيين البريئين: علي ولقمان فحصلت على أكثر من فيديو وزعه دواعش باسم ـ محبي التبليطة والفشيش ـ إذ يبدو في الفيديوين الشهيدان وشقيقهما إبراهيم منبطحون أرضاً، مع آخرين، بعد أن تم إنزال أبناء صديقي من الطابق العلوي من البناية التي تسكن أسرة صديقي بهيج ـ مدرس الرياضيات القدير ـ في طابقها الثالث، بينما الطابقان الأول والثاني لأقرباء العائلة، وهو ما سأوضحه، لاحقاً، وكان صديقي من الطلاب الأوائل على جامعة تشرين، كما حمل أكثر من شهادة دبلوم تربوي، أعمال إلخ.

خلال سنوات عمله ربى صديقي بهيج أبو علي أولاده خير تربية، كما هي أخلاقه، فكان أبناؤه وابنته د. آية من الطلبة الأوائل، بفضل تربية والديهم اللذين هما أبعد عن أية عصبية، نتيجة إنسانيتهما ونبلهما، كما هو شأن أفراد الأسرة الذين لم يكونوا في يوم ما في أي تنظيم سياسي، ولا أية جمعية مدنية أو سياسية، إلا إنه عندما تمت مداهمة قرى ومدن الساحل فإنه تمت مداهمة منزل صديقي أ. بهيج واقتيدت زوجته وأبناؤها الثلاثة إلى أسفل البناية التي دخلوها بعد كسر الأقفال بالرصاص. أبطحوهم أرضاً، طلبوا منهم العواء، رفض د. علي وشقيقه لقمان الاستجابة الذليلة، فتعرضا للشتم وإطلاق النار عليهما ضمن المجموعة التي أنزلت من البيوت المجاورة وتم إعدامهما فيما تسمى- ساحة الحمام- في اللاذقية يوم الجمعة 7/3/2025.

ما اسمك؟

علي.

لم ملابسك أنيقة؟

أنا طبيب وأبي مدرس في الخليج.

لا، أنت شبيح.

اعوِ.

لا، لن أعوي.

فأطلق الجنجويد الداعشي الرصاص على رأسه وصدره، كما أطلقوا الرصاص على ظهر شقيقه لقمان، وسمحوا لشقيقهما الصغير إبراهيم بالعودة إلى العمارة بعد أن كانوا قد فتشوا حقيبة د. علي المحمولة وفيها هويتاه الشخصية والنقابية ورخصة قيادة السيارة  ومفتاحا سيارته وسيارة أمه وبعض الذهب والمال  فسطا هؤلاء المعفشون على المال والذهب  مع  السيارتين. كما  كانوا قد أطلقوا الرصاص على قريب العائلة في العمارة التي تحتل أسرة صديقي الطابق الثالث، بينما الطابقان الآخران  فقد كانا لخؤولة زوجة صديقي بهيج. إذ نجا من عوى- ولا معابة أمام ضباع ووحوش عديمي الدين والأخلاق والقيم والرجولة- ليكون ولدا صديقي بهيج من عداد شهداء  مدن وقرى الساحل ومنها قرى: الدالية، بيت عانا، المنصورة، صنوبر جبلة، المختارية، برابشو، حي القصور في بانياس، عين الكروم، وادي الغار… من القرى والمناطق التي يسكنها الكرد، وهي كثيرة منذ أيام المنقذ الكردي، المكزون السنجاري الكردي (1187–1240م)، الذي جاء مرتين لمؤازرة العلويين بجيش كردي بلغ عدده في المرة الأولى عشرة آلاف مقاتل سنة 623هـ/1226م، بينما بلغ عددهم في المرة الثانية عشرين ألفاً سنة 625هـ/1228م، فانهزم في الأولى وانتصر في الثانية، فارضاً السلام. وظل هؤلاء في قرى محددة من الساحل سوف أتوقف عندها في مقال آخر، لتكون هناك أسر كردية بعضها حافظ على الكردية حتى الأمس القريب، بينما دخلت معجم المنطقة مفردات كردية، كما في بعض قصائد المكزون، وإن نجد الكثير من هذه العائلات ستنسب إلى قبائل وأسماء عربية.

كنت أتلظى ألماً وأنا أسمع صديقي بهيج دون بهجته التي طالما عهدتها فيه، يكلمني بحرقة والغصة في حلقه:

إبراهيم، خسرت فلذتي كبد لم يشاركا يوماً في مظاهرة أو شأن سياسي. لقد استشهدا وهما صائمان. سألت أمهما عنهما فقيل لها: سنحقق معهما ويأتيان، لكنهما أُعدما مقابل العمارة، ورُمي جسداهما على بعد مئات الأمتار. أحمِّل الرئيس الانتقالي أحمد الشرع،  وكل من:وزير الداخلية، وزير الدفاع مسؤولية دماء ولدي، وأطالبهم بتقديم كل من كانوا وراء الجريمة أو نفذوها، أو خططوا لها  أوأمروا بتنفيذها إلى المحكمة، والقصاص العادل لهما، ليس افتراضياً، بل أمام الكاميرات،  ليكون ذلك جزاءهم القانوني ومن جنس فعل القتلة الإرهابيين.

من يعيد لعيني صديقي بهيج بريقهما بعد أن أُطفأت رصاصات الغدر بهجته وحياة نجليه ؟ من يعيد لزوجته أم الشهيدين دفء عليها ولقمانها، وقد خبت أصواتهما في البيت إلى الأبد؟ من يعيد آلاف الشهداء الذين سقطوا في قرى الساحل والسويداء وغيرهما إلى الحياة؟ إن الدماء التي سالت لا تستعاد، والأرواح التي غادرت لا تعود، لكن بوسع الكلمة أن تصرخ، وبوسع الذاكرة أن ترفض النسيان، وبوسع القصاص أن يكون وعداً لا يسقط بالتقادم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.