: آخر تحديث

الإنسان العاقل… أعجوبة أم مهزلة التاريخ؟

3
3
2

يا له من إنجاز أن يولد المرء "إنساناً عاقلاً"! 7.5 مليار نسخة مطابقة تقريباً تسير فوق كوكب واحد، تتزاحم على الهواء والماء والطعام والواي فاي. الجنس البشري – هذا "الإنجاز التطوري" – تمكن بمهارة من صناعة الطائرات والهواتف الذكية والبرغر المزدوج، لكنه بالكاد استطاع أن يحل معضلة: كيف لا يلتهم أحدنا الآخر، سواء جسدياً أو معنوياً.

نعم، نحن كائنات وسطية، لا نملك مخالب النمور ولا سرعة الغزلان ولا صبر السلاحف. لدينا ذكاء متوسط، يتحرك بين اختراع الأدوية المنقذة للحياة وتصميم أسلحة قادرة على محوها كلها في لحظة. نحن أشبه بصفقة تسوية بيولوجية: لا قوي ولا ضعيف، لا عبقري ولا غبي تماماً، مجرد خليط مرتبك يظن أنه سيد الكوكب بينما لا يستطيع تحمل شمس حارة أو شتاء قارس دون أجهزة تكييف أو معطف مستورد من الصين.

والأجمل أننا نعيش في عالم متخم بالمعلومات، عالم بضغطة زر يخبرك ماذا يأكل الناس في سنغافورة، أو كيف يتعاركون في تويتر، أو أين تجد أرخص وصفة "ديتوكس". ومع ذلك، وسط كل هذا التدفق المعرفي، لا يزال الإنسان في حاجة إلى كتب التنمية البشرية التي تقول له "كن نفسك" وكأنها أعظم اكتشاف فلسفي منذ أرسطو.

لكن الحقيقة القاسية أن الإنسان لا يتعب فقط من البقاء على قيد الحياة، بل يتفنن في جعل حياة الآخرين أكثر صعوبة. إنه يكدّس الضغوط على نفسه ثم يسقطها على جاره وزميله وأطفاله، ثم يتساءل بحيرة: لماذا لم تجلب كل هذه الجهود سعادة إضافية؟ لماذا لا يبتسم أحد في مترو الصباح؟

وحين يطل الضمير من نافذة صغيرة، نجد أنفسنا أمام مشهد كاريكاتوري: شخص يتلذذ بشرائح اللحم المشوي ثم يتأمل صور المزارع الصناعية للحيوانات فيصاب بالغثيان. آخر يغرق في رفاهيته، بينما صور الأطفال تحت القصف أو في المخيمات تحاصره على شاشة التلفاز. نحن نعيش مأساة أخلاقية مزدوجة: ثراؤنا يشعرنا بالذنب، وفقر الآخرين يمنحنا وهماً بالتفوق. فنخرج محافظنا تارة، ونكتب تغريدة غاضبة تارة أخرى، متوهمين أن العالم قد تغير.

وفي الوقت نفسه، يهاجر الفقراء نحو "الفردوس الأوروبي" أو "الحلم الأميركي"، فيكتشفون أنهما لا يختلفان كثيراً عن إعلان تجاري: بريق مبهر من الخارج، استقبال بارد من الداخل. فهم مرحب بهم فقط إذا كانوا يصلحون كعمالة رخيصة أو إحصائية سياسية.

الإنسان، هذا الكائن الطريف، خاض معاركه الوجودية في البيت والزواج، في البرلمان والأسواق، وحتى في الفيسبوك. فالمعارك النصية صارت هواية جماعية، رسائل الكراهية تطير أسرع من رسائل الحب، والشتائم الرقمية أصبحت أكثر دقة من الرصاص. وحتى الفيروسات لم تعد بيولوجية فقط، بل باتت تهاجم الأجهزة كما يهاجم الحسد القلوب.

ومع ذلك، لا يزال السؤال معلّقاً: لماذا نصر على تدمير بعضنا البعض بينما التعاون أرخص وأجمل وأقل إرهاقاً للأعصاب؟ لماذا نهدر مليارات على جيوش وأجهزة تجسس بينما يمكن لجزء صغير منها أن يحوّل الكوكب إلى جنة تعليم وصحة وطاقة نظيفة؟ الجواب بسيط وصادم: لأننا "عقلاء" بالاسم فقط، أما في السلوك، فنحن نمارس الغباء وكأنه رياضة أولمبية.

ولكي نكمل الكوميديا السوداء، تملك البشرية الآن 16,300 رأس نووي قادر على تحويل الكوكب إلى رماد في دقائق. لا أحد يفكر بتفكيكها، بل يتم "تحديثها". يا للفظ البديع! كأنها تطبيق هاتف يحتاج إلى نسخة أحدث، لا أداة انتحار جماعي.

إذن، نحن أمام مشهد عبثي: كائنات متوسطة القدرات، تخاف من الوحدة لكنها تعيشها، تبني حضارة رقمية تربط القارات، ثم تستخدمها لإرسال "إيموجي الغضب". إنسان يحتفل بتقدمه العلمي في علاج الأمراض، بينما يزرع ألغاماً جديدة تحت قدميه.

باختصار، الإنسان العاقل ليس سوى "خطأ مطبعي" في كتاب التطور، نصفه معجزة، نصفه مأساة، وكلّه مادة دسمة لسخرية التاريخ.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.