: آخر تحديث
2.5 مليون لغم…

أقدام اليمنيين تمشي فوق قبور مؤجلة

9
9
8

في اليمن، لا تنام الأرض… إنها تتنفس موتاً مؤجلاً، وتتحدث بلغة الصمت المفخخ، حيث كل خطوة يمكن أن تكون الأخيرة، وكل حجر صغير قد يخفي تحته شظايا تاريخ دموي لم يُطوَ بعد. لا أحد يستطيع أن يكتب عن اليمن دون أن يتوقف عند هذا المشهد: طفل يركض في حقل، ثم يسقط فجأة بلا صوت، لأن الأرض قررت أن تذكره بما خبأه الزمن في جوفها. الألغام الحوثية ذاكرة قاتلة، مزروعة بوعي، ومزروعة أيضاً بلا خرائط.  

منذ الانقلاب الحوثي على الشرعية عام 2015، تشير التقديرات إلى أن جماعة الحوثي زرعت أكثر من 2.5 مليون لغم أرضي، وهو رقم يفوق ما زُرع في أي صراع حديث في العالم، لتصبح اليمن من أكثر دول العالم تلوثاً بالألغام. لم تكن الألغام عسكرية بالمعنى الكلاسيكي، بل تنوّعت من ألغام مضادة للأفراد إلى ألغام للدبابات، وعبوات ناسفة محلية الصنع، وألعاب موت تم تمويهها داخل دمى الأطفال وعلب المياه المعدنية وأكوام القش وحتى حقائب المكياج النسائية. وما يزيد المشهد وحشية أن كثيراً من هذه الألغام زُرعت في طرق المزارعين والرعاة، في المدارس المهجورة، في الطرق الفرعية، بل وحتى داخل منازل نزح عنها ساكنوها.  

مشروع (مسام) السعودي لنزع الألغام أعلن حتى نهاية 2024 عن إزالة أكثر من 476,000 لغم وعبوة ناسفة وذخيرة غير منفجرة، لكن الطريق لا يزال طويلاً، خاصة أن هناك مناطق لا يمكن الوصول إليها بسبب الأوضاع الأمنية، أو بسبب غياب الخرائط الأصلية لتوزيع الألغام. الضحايا بالآلاف، بينهم أطفال، ونساء، وعمال إغاثة، وأطباء، ورعاة غنم. وفي بعض الحالات، يُقتل أفراد من عائلة واحدة عند مرورهم بسيارة واحدة فوق عبوة ناسفة زُرعت بعناية تحت الإسفلت.  

إقرأ أيضاً: 13 لغماً تحت أقدام عبد الملك الحوثي

المناطق الأخطر موزعة في جغرافيا الحرب. في محافظة الحديدة، تتصدر مديريات حيس والدريهمي والتحيتا والخوخة قائمة المدن المفخخة، حيث زُرعت الألغام بكثافة على السواحل، والمزارع، والممرات المؤدية للقرى. أما تعز، فقصتها مختلفة؛ المدينة المحاصرة تحوّلت إلى حقل ألغام ضخم، خاصة في الضواحي الشرقية والجنوبية، وحول جبل صبر، وفي منطقة الشقب، حيث كانت الخطوط الأمامية للقتال. في طوق صنعاء والبيضاء، مأرب، الجوف، وحجة، تنتشر الألغام كما تنتشر الذاكرة السيئة، لا يمكنك أن تنظر إلى تلة أو وادٍ دون أن تتساءل: هل ما تحتها آمن؟ هل العشب الذي ينمو على سطحها يخفي جمرة موت؟  

في صعدة، المعقل الأول للحوثيين، أصبح التلوث بالألغام جزءاً من البنية الجغرافية. مديريات كتاف وباقم والظاهر تحوّلت إلى مناطق مغلقة، غير قابلة للعيش أو العودة. حتى في عدن وأبين ولحج، حيث انسحب الحوثيون بعد تدخل التحالف، خلفوا وراءهم الآلاف من الألغام في المنشآت الحكومية والمباني السكنية.  

لكن هذه ليست بداية القصة. فقبل الانقلاب الحوثي في 2015، كانت هناك ألغام قديمة نائمة، تعود إلى زمن ما قبل الوحدة، إلى الحرب بين الشطرين، الشمالي والجنوبي. وهنا، تبرز بصمة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، الذي دعم النظام الاشتراكي في جنوب اليمن بأسلحة متنوعة، من بينها شحنات ألغام مضادة للأفراد والدروع. تقارير استخباراتية ووثائق عسكرية وشهادات من خبراء ألغام، كلها تؤكد أن الألغام الليبية زُرعت في مناطق استراتيجية على الحدود بين الشمال والجنوب، وخاصة في محافظات لحج وأبين والضالع. كانت هذه الألغام جزءاً من الدعم العسكري الذي قدّمه القذافي للجبهة القومية، ونُقلت عبر البحر إلى عدن ثم وُزّعت في الجبال المحيطة بكرش، طور الباحة، المضاربة، ردفان، ويافع. بعض هذه الألغام يحمل علامات تصنيع تعود لمصانع ليبية، والبعض الآخر وُثّق في تقارير Landmine Monitor كمخزون ليبي سابق استُخدم في اليمن. حتى بعد الوحدة عام 1990، لم تُنزع هذه الألغام بالكامل، وظلّت كامنة، تقتل المدنيين وتُشلّ الأطراف دون إنذار.  

إقرأ أيضاً: وداعاً لخامنئي… وسقوط الولاية الفردية في خريف 2026

ما يجعل الوضع مأساوياً أكثر هو أن أغلب الألغام المزروعة – سواء الحديثة أو القديمة – لم تُوثّق بخرائط. وفي الوقت الذي تعتمد فيه الدول في الحروب على خرائط دقيقة لتوزيع الألغام لأجل نزعها لاحقًا، فقد تم زرع الألغام في اليمن بطريقة عشوائية، أو بخرائط ضاعت في متاهة الحرب، أو أُخفيت عمداً، حتى أن بعض السكان المحليين يروون حكايات عن رجال زرعوا الألغام ثم ماتوا بعدها بأيام، دون أن يتركوا أي إشارة لمكانها.  

الصمت هنا لا يعني السلام. الصمت هو الأرض التي تنام فوقها قنبلة. هناك قرى يمنية كاملة هجرت منازلها بسبب الخوف من الألغام. بعض المدارس أُغلقت، بعض المساجد دُمّرت، بعض المزارع هُجرت لأن لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها. كل خطوة محسوبة، كل حركة مرعبة. طفل يخرج ليجلب الماء، امرأة تمر في طريقها للمشفى، شاب يركب دراجته… كلهم مشاريع شهداء محتملين.  

وفي تقرير مشترك للأمم المتحدة واليونيسف، تم تسجيل أكثر من 10,000 طفل يمني قُتلوا أو أُصيبوا منذ بداية الحرب، ونسبة كبيرة منهم كانت بسبب ألغام أو ذخائر غير منفجرة. بعضهم فقد ساقه، بعضهم فقد عينه، وبعضهم فقد الحياة كاملة. وفي كل مرة تُنشر صورة لطفل مبتور القدم أو وجه ملوث بالشظايا، نتذكر أن الحرب لم تنتهِ بعد، وأن ما زرعه القذافي قبل أكثر من 40 عاماً ما زال يحصد أرواحاً حتى اليوم، جنباً إلى جنب مع ما زرعه الحوثيون بالأمس.  

إقرأ أيضاً: الحوثيون ينهارون بهدوء والنهاية صيف 2027

الشيء المؤلم أكثر أن الضحايا لا ينتمون لطرف واحد، الألغام لا تفرّق بين موالٍ ومعارض، بين شمالي وجنوبي، بين جندي ومدني. الأرض هنا حيادية… لكنها قاتلة. كل ما يلامسها قد ينفجر. وبينما يسعى العالم لنزع الألغام من فيتنام والبوسنة وأنغولا منذ عقود، تبدو اليمن وكأنها دخلت متأخرة جداً إلى نادي الموت المؤجل.  

في النهاية، لا أحد يعرف العدد الحقيقي لما تبقى من الألغام في اليمن. التقديرات تتحدث عن مئات الآلاف، وربما أكثر. لكن الأكيد أن ما تبقى منها كافٍ ليزرع الحزن في أجيال قادمة، وأن صمت الأرض في اليمن… ليس سلاماً، بل صدى لانفجار قادم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.