: آخر تحديث

عندما يختل ميزان الوعي

1
1
1

سارا القرني

في زمنٍ يتدافع فيه كل شيء نحو الضوء، لم يعد المشهد الاجتماعي كما كان.

العلاقات تتفكك رغم قرب المسافات، والوجدان يبهت مهما ازدادت وسائل التعبير، والحياة -على اتساعها- باتت محاصرة بسيلٍ من الأصوات والصور التي لا تشبهنا.

لقد أصبح الإنسان اليوم يعيش داخل دوامةٍ من الضغط اليومي؛ بحث مستمر عن مكان، عن قيمة، عن اعتراف، حتى كأننا في سباقٍ مفتوح لا نهاية له، نركض بلا توقف، بينما تتساقط منا أجزاء من الهدوء والاتزان والصدق.

أحد أخطر التحولات هو دخول الشهرة -بكل ضجيجها- في صميم حياتنا الاجتماعية.

فلم تعد الشهرة إنجازًا يُصنع، بل أصبحت «مقاسًا اجتماعيًا» يُحدّد قيمة الإنسان في نظر الآخرين، حتى لو لم يملك من الجوهر شيئًا.

ولهذا تراجعت الفكرة العميقة للهوية، وحلّ مكانها صخبٌ مصنوعٌ، وصور مبهرة لا تمت للحقيقة بصلة.

والأسوأ من ذلك أن المنصات الرقمية حوَّلت العلاقات الإنسانية من روابط تُبنى إلى روابط «تُستهلك».

كل شيء سريع، مؤقت، هش.

نقترب من بعضنا بلا تمهيد، ونبتعد بلا اعتذار، كأن القلب لم يعد يحتمل الالتزام، وكأن الوعي الإنساني نفسه أصبح خاضعًا لإيقاع الشاشة، لا لإيقاع الروح.

لقد شوَّه هذا الواقع مفهوم «القدوة» أيضًا.

فلم يعد المجتمع يتطلع إلى العلماء والمفكرين وصنَّاع الإنجاز، بل إلى الأكثر صخبًا، الأكثر ظهورًا، حتى لو قدّموا محتوى يُضعف الذائقة ويشوّش الوعي العام.

هذه البيئة المضطربة جعلت العلاقات أكثر هشاشة، فلم تعد تُبنى على الثقة أو النقاء، بل على الانجذاب اللحظي، أو الحاجة العابرة، أو الخوف من الوحدة.

والنتيجة هي جيل يمسك هاتفه أكثر مما يمسك ذاته، يبحث عن التصفيق أكثر مما يبحث عن الحقيقة، ويمنح مشاعره بسهولة أكبر مما يمنح وقته لنفسه.

لكن وسط كل هذا التشوّه، ما زالت هناك فرصة للنجاة.

النجاة تبدأ بالوعي:

أن نفهم أن العالم الافتراضي ليس مقياسًا للقيمة، وأن العلاقات التي تُبنى على الضجيج تنهار عند أول صمت، وأن الإنسان لا يكتمل بالمتابعين، بل بالثبات الداخلي، ولا يرتقي بالشهرة، بل بالنزاهة، ولا ينجو بالهروب، بل بالمواجهة.

نحتاج أن نستعيد علاقتنا بأنفسنا قبل الآخرين، وأن ندرك أن القوة ليست في الظهور، بل في أن تكون حقيقتك أثقل من صورتك.

وأن الوعي...

هو الشيء الوحيد الذي لا ينهار مهما تغيَّر شكل العالم.

عندما يختل ميزان الوعي، يضعف المجتمع بأكمله.

وعندما يستعيد هذا الميزان توازنه، تستقيم العلاقات، وتصفو النفوس، ويعود الإنسان إلى مكانه الطبيعي: قيمة لا تُقاس بضجيج، بل بجوهرٍ لا يُقلَّد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد