: آخر تحديث

بيوت من ورق.. حين تسكن الحقيقة خلف جدار هش

4
3
2

في مدينة بلا اسم ولا تُرسم على الخرائط ولا تُعرّف بإحداثيات كان الناس يسكنون بيوتًا من ورق جدرانها رسائل لم تُقرأ وسقوفها وعود مؤجّلة وأبوابها كلمات لم تُقَل. هناك، كل شيء هش، الهواء والعواطف وحتى الصمت كان خائفًا من الريح. لا أحد يطرق الأبواب لأن الطرق قد يُمزق ولا أحد يضحك بصوت عالٍ فالضحك يهزّ الأساسات ولا أحد يقول الحقيقة فالحقيقة في تلك المدينة كانت ريحًا والريح تمزّق الورق.

كل شيء مؤقّت فالعلاقات مرهونة بموعد صلاحيتها والمشاعر مشروطة بالمقام والصدق سلعة نادرة لا تُباع إلا سرًّا، وكان الناس يتقنون التمثيل ويعيشون داخل هذه البيوت كما يؤدي الممثلون أدوارهم دون تصفيق، لكن البيوت رغم تماثل مادتها لم تكن متشابهة، فبعض الجدران مزدحمة بكتابات مكررة بلا روح كما لو أن ساكنيها كتبوا لئلا يصمتوا لا لأن لديهم ما يقولونه وأخرى فارغة تمامًا موحشة كصحراء داخل جدار، أما بعضها فكان ممزق الأطراف ويحمل بقايا حكايات لم تكتمل أو كلمات توقفت فجأة لأن الحبر جفّ أو لأن من كتبها خاف أن تُقرأ، وهكذا كانت البيوت مرآة للداخل أكثر منها حماية من الخارج.

كانت المدينة بأكملها تعيش على هامش الحقيقة وتتزين بالادّعاء وتخاف من الانكشاف وفيها الزيف ليس انحرافًا بل عرف اجتماعي، والصدق لا يُكافَأ بل يُعامل كمؤامرة على الإجماع، وحتى الكلمات تراكمت كالغبار لا لتنير بل لتُعتم.

في أحد أركان المدينة، عاشت امرأة تُدعى سِدرَة واسمها لم يكن عاديًا فقد حمل داخله رمزية خفية كشجرة السِّدر فقد كانت هادئة في الظاهر وعميقة الجذور في باطنها ولا تستجدي الحماية من العواصف بل تقف في وجهها بثبات. سدرة امتلكت قلمًا لم يكن للتزيين بل للتساؤل، وكانت كل مساء تكتب على جدار بيتها الورقي سؤالًا واحدًا وهو: «ماذا لو هبّت الحقيقة؟».

مرّ الناس من أمام جدارها وقرأوا السؤال وأعرضوا كأنهم لم يروه ففي مدينتهم الحقيقة خطر وتزعزع البيوت وتُسقط الأقنعة. ثم كما لو كان للسماء توقيت خاص بها، هبّت الريح ذات صباح، ولم تكن ريحًا عادية، بل يقظة مؤجلة وصامتة لكنها قاطعة، وبدأت المدينة تتفكك بيتًا بعد بيت وعلاقة بعد علاقة وكلمة بعد كلمة، والناس هربوا وركضوا وهم يحاولون الإمساك بذكرياتهم وهي تتطاير ويلملمون مشاعرهم وهي تذوب كحبر على ورق مبتل، وصاح أحدهم في ذهول «من الذي فتح الباب للريح؟».»من الذي فتح الباب للريح

لكن سِدرَة لم تهرب وجلست على الأرض وسط أطلال بيتها الممزق ورفعت رأسها نحو السماء ومدّت يدها إلى الفضاء حيث لا جدار يحجب ولا سقف يقي وابتسمت لأول مرة وشعرت أن التنفس لا يحتاج إلى إذن وأن الانكشاف لا يعني الضعف، وبقي القلم في يدها وكتبت على آخر بقايا الجدار «لم أكن أعيش بل كنت أطوي نفسي كصفحة غير مقروءة».

ومنذ ذلك اليوم لم تُبنَ البيوت كما كانت ولم يعد الورق أساسًا بل بدأ الناس يبحثون عن شيء أقوى وأصدق وأصلب، فقد بحثوا عن حجارة داخل قلوبهم ووجدوها لكنها لم تكن حجارة عادية بل من ألماس نادر فقد كانت شفافة لا تنكسر وثمينة لا تُباع وحادّة لا تُؤذي، وحينها فقط أدركوا أن الحقيقة ليست فقط صلبة بل جميلة وأن من يبني بيته على الصدق لا تهزه عواصف الزيف مهما اشتدّت.

تحولت سِدرَة من امرأة وحيدة في ركن إلى بذرة زرعتها الريح في الأرض ومنها نمت مدينة لا تُبنى إلا على الحقيقة، تلك المدينة التي تُضيء لكنها لا تحترق. لكن القصة لا تنتهي عند سِدرَة بل تبدأ عند القارئ لأن في داخل كل واحد منا بيت من ورق والسؤال الوحيد هو «هل نملك القلم وهل نجرؤ على فتح الباب للريح؟»

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد