: آخر تحديث

تجربة حزب

1
0
1

مع انهيار النظام السياسي في سوريا، انتهى تقريباً «حزب البعث» الذي حكم بلدين عربيين مدة تزيد على أربعين عاماً.

تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي في 1947، وشارك في الحكومة السورية منذ 1952، ثم انفرد بالحكم في 1963. كذلك الأمر في العراق منذ 1963 ثم انفرد بالسلطة في 1968 حتى الإطاحة به في 2003.

هذه تجربة سياسية عريضة، لم يحظ بها حزب عربي آخر. مع ذلك فإن تأثيره الثقافي والسياسي في المجتمع العربي ضئيل، ونادراً ما لوحظ له وجود عميق أو مؤثر، خارج البلدان التي حكمها أو شارك في حكمها. حتى إنه بالكاد يذكر في العراق اليوم. ولم يكن السبب هو القمع أو عداوة الحكومات المحلية في مختلف الأقطار. فهذا ظاهر حتى في البلدان التي سمحت له بالعمل العلني، كما هو الحال في لبنان واليمن، حيث اقتصرت عضويته على مجموعة صغيرة، معظم أعضائها من كبار السن، رغم سخونة المشهد السياسي في البلدين.

منذ سنوات طويلة، دار سؤال جدي حول التأثير المحتمل لممارسة السلطة، على كفاءة الحزب في التعامل مع التحولات الثقافية والاجتماعية، وانعكاسها على موقف الجمهور من أي حزب سياسي. وقرأت لأعضاء سابقين نقاشاً فحواه أن انفراد «البعث» بالحكم في سوريا والعراق، جعله رهينة للسياسات الجارية في البلدين، والتي لم تكن في غالب الأحيان مواتية أو مريحة لعامة الناس. عدا هذا، فثمة انطباع عام بين الباحثين، خلاصته أن مشاركة أي حزب في السلطة، سوف تحمله - بشكل شبه آلي - مسؤولية إخفاقاتها، بنفس القدر الذي تجعله يجني ثمار نجاحاتها.

وأميل إلى الاعتقاد - بناء على مراقبة تجارب - أن تمتع الحزب بالسلطة المادية، قد عزز قناعة الأعضاء بعدم الحاجة إلى مراجعة مبانيه الفكرية أو مستهدفاته، رغم التحولات العميقة التي عرفها المجتمع العربي، خلال الحقبة الطويلة الفاصلة بين ظرف تأسيسه عقيب الحرب العالمية الثانية، ونهايات القرن العشرين. المراجعة تعني نقد الذات أو الإشارة إلى أخطاء فكرية أو عملية، وهذه تتطلب استعداداً لتحمل مسؤولية الخطأ. فأين تجد الشجاع الراغب في تقديم نفسه قرباناً للآخرين؟

تمحور الخطاب السياسي البعثي حول ثلاثة أهداف كبرى، وهي الوحدة العربية والحرية والاشتراكية. ونعلم أن الحزب لم يعمل بشكل جاد لتحقيق أي من هذه الأهداف. بل إنه أخفق حتى في إنشاء علاقة مودة بين دمشق وبغداد، خلال حكمه فيهما. وأخفق في احترام شعار الوحدة العربية في علاقته بمصر الناصرية، ثم في علاقة دمشق مع بيروت وعلاقة بغداد بالكويت.

الشعار الثاني، أي الحرية، لم يكن أحسن حالاً، فالحزب لم يتردد أبداً في قمع معارضي قيادته، حتى لو كانوا من المناضلين والقادة المؤسسين، فضلاً عن غيرهم. وعلى أي حال فإن الضيق بالرأي المختلف سمة ظاهرة عند العرب والمسلمين، لذا لا نستبعد القول بأن الحزب كان مرآة للمجتمع الذي أنتجه.

لا أظننا بحاجة للحديث عن الهدف الثالث للحزب، أي الاشتراكية، لأن كل ما عرفه العراق وسوريا من الاشتراكية هو هيمنة الدولة على مفاصل الإنتاج الوطني، وتحويل جانب من القوات المسلحة والعديد من الدوائر الرسمية إلى متاجر أو منصات تجارية، تنافس القطاع الخاص، وتستعين عليه بقوة الدولة.

نعرف أن هذا التوجه قد ضيق مسارات الاستثمار المحلي، كما أغلق الباب أمام الاستثمار الأجنبي. وكانت النتيجة أن الاقتصاد في كلا البلدين بات هزيلاً ومعتمداً تماماً على النفقات الحكومية الجارية، رغم الدعاية الواسعة عن المصانع والمزارع الضخمة وغيرها.

تجربة حزب البعث الطويلة، جديرة بأن تقرأ نقدياً، كي نتفادى الوقوع في أحلام مماثلة، لا نضمن نهاياتها. أستطيع التأكيد أن عودة «البعث» إلى السلطة احتمال مستحيل، لكن القراءة النقدية تعيننا على معرفة الطريق نفسه، بغض النظر عمن يحمل الاسم والشعار.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد