: آخر تحديث

ترمب وبوادر نظام عالمي جديد

4
4
4

لا شك أن العالم يشهد ولادة نظام عالمي جديد، لم يسببه انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة، لكن تولي ترمب للحكم شكل إحدى ظواهر انتهاء النظام العالمي الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية وترسّخ مع انتهاء الحرب الباردة. النظام العالمي كانت ركيزته القيادة الأميركية للعالم ومبنياً على نفوذ غربي من خلال مؤسسات عالمية مثل الأمم المتحدة (فثلاث من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن غربية) والبنك الدولي وحلف «الناتو» وغيرها. هذا العالم بدأ بالتفكك. ومنذ توليه الحكم قبل 3 أشهر، أكد ترمب أن بلاده لم تعد تبالي بلعب هذا الدور القيادي، وقد اتخذ مواقف تدل على توجه واشنطن للعزلة تدريجياً. وقد قلص الرئيس الأميركي من الإنفاق الخارجي من خلال تحجيم المساعدات الخارجية ووقف دعم منظمات دولية، وعلى رأسها وقف دعم «الأونروا» و«اليونيسكو» و«مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان» بالإضافة إلى منظمة الهجرة الدولية والمفوضية السامية للاجئين. وكانت واشنطن هي الممول الرئيسي لتلك المنظمات مما أعطاها نفوذاً في دوائر صنع القرار وتحديد مسار عملها. لكن مع تراجع الإنفاق، تراجع هذا الدور. ومن جهة أخرى، هدد ترمب بالانسحاب من «الناتو» وقلب نظام التجارة العالمي رأساً على عقب من خلال فرض التعريفات الصارمة، حتى وإن عطل تنفيذها في الوقت الراهن.

كل عام منذ بداية القرن الـ21 وقعت فيه أحداث أوصلت العالم إلى ما يشهده اليوم من تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية.

هناك من ينظر إلى الانسحاب الأميركي من أفغانستان والحرب في أوكرانيا وانهيار نظام بشار الأسد والحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين ومحاولة الانقلاب الفاشلة في الكونغو على أنها أحداث متفرقة. لكن في الواقع، يبدو أن هذه الأحداث كلها مرتبطة بانتهاء نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية وتأتي نتيجة تقلبات جذرية في الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا. السؤال الذي يدور في الأوساط السياسية والبحثية هو ما الذي سيحل محل النظام القائم؟ هناك مقولة شهيرة للفيلسوف والسياسي الإيطالي أنتونيو غرامشي قال فيها: «العالم القديم يموت والعالم الجديد يصارع من أجل الولادة... إنه زمن الوحوش». قد لا ينطبق «زمن الوحوش» على عصرنا من دون غيره، إذ وحوش الحروب والتسلط دائماً موجودون، لكن من دون شك العالم الجديد يصارع من أجل الولادة وهناك من يستغل الوقت الحالي لتثبيت مصالحه وهناك من يقف متفرجاً، عاجزاً عن التأثير الحقيقي. التحدي أمام كل دولة هو أن تؤمن مصالحها وتحاول بسط النفوذ - نسبياً - على النظام الذي يولد.

الأشهر الثلاثة الماضية من رئاسة ترمب قد سرّعت من طي صفحة النظام العالمي السابق. ومع إعلان ترمب فرض تعريفات باهظة على دول صديقة ومجاورة مثل كندا والمكسيك بنسبة 25 في المائة (ما عدا مشتقات الطاقة) وأخرى منافسة مثل الصين، التي وصلت إلى 145 في المائة، دخل نظام الاقتصاد العالمي الذي يعتمد على التجارة الحرة مرحلة حرجة. وعلى الرغم من إعلانه تجميد فرض الرسوم، ما عدا الصين، لمدة 90 يوماً، فإن الضرر الذي مس التعاون الدولي ما زال ملموساً.

ومن المفارقة أن انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية عام 2001 شكل في حينه نقطة مفصلية في تقدم نظام عالمي يقوده الاقتصاد الأميركي. اليوم تتجه بكين إلى القضاء الدولي لمقاضاة واشنطن على كسر قوانين التجارة الحرة. كيفية تطور هذا الصراع السياسي-الاقتصادي-القضائي ستؤثر على العالم بأسره لأنه سيرسم حدود خطوط العلاقات الدولية بشكل جديد أو يرسخ القواعد الحالية.

منذ زمن تزداد التوقعات بأن الصين هي التي ستحل محل أميركا، لكن في الواقع يبدو أن النظام العالمي الجديد لن يعتمد على قوة واحدة مثلما حصل مع الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. بل من المتوقع العودة إلى زمن أشبه بالقرن الـ18 والـ19 عندما كانت هناك قوى متعددة تتمحور قوتها في محيطها المباشر. بعض المحللين ينظرون إلى الأمم المتحدة وخاصة مجلس الأمن كموقع للتغيير العالمي المرجو كي تكون هناك أسس جديدة للحوكمة العالمية محصنة ضد تقلبات دولة عظمى دون أخرى، لكن مع صعود موجة الحمائية والانطوائية لا يبدو الوقت مناسباً لنقاشات جدية حول إصلاح الأمم المتحدة والتعاون الدولي. لذا باتت التكتلات الإقليمية أهم من السابق بناء على المصالح المشتركة.

اليوم هناك مصادر قوة مختلفة، اقتصادية وعسكرية وسياسية، تؤثر على العالم – وليست كلها دولاً، بل هناك شركات عملاقة خاصة مثل «غوغل» و«ميتا» أصبح تأثيرها يضاهي بل يفوق دولاً كثيرة ذات سيادة. وبات من البديهي التوقع أن التكنولوجيا والطفرات المرتبطة بها ستعطي الأسبقية لمن يمتلك سبل تطويرها أو تطبيقها أولاً وبجدارة.

كل هذه المؤشرات ذات أهمية وتداعياتها ستظهر على المدى البعيد. لكن ما شهده العالم في الأشهر الثلاثة الأولى من رئاسة دونالد ترمب برهن أيضاً على أن واشنطن ما زالت مركز القوة في العالم، وتصريح من بيتها الأبيض ما زال يستقطب اهتمام كل ركن من أركان العالم ويؤثر على توجهات أسواق مالية من بكين إلى لندن مروراً بالدول النافذة في الشرق الأوسط. عسى أن ينتبه الرئيس ترمب إلى هذه القوة التي تحمل معها مسؤولية كبيرة تجاه عالم يعاني من تقلبات مناخية وحروب دموية ومخاطر اقتصادية قد تصل عواقبها إلى الشواطئ الأميركية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد