ناهد الأغا
الموسيقار سيد مكاوي؛ اختص بحالة إبداعية متفردة؛ وترك زخماً من الأعمال العبقرية التي أثرت السجل الموسيقي العربي بأسخى الألحان وأعذبها؛ تعددت أعماله وتنوعت فمنها البرامج الغنائية والأوبريت والأغاني.
عندما نذكر أوبريت «الليلة الكبيرة» نذكر سيد مكاوي؛ وإذا سمعنا «الأرض بتتكلم عربي» نذكر سيد مكاوي؛ ولما نشدو بأجمل أغنية «أوقاتي بتحلو معاك» يحضر في الذاكرة طيف سيد مكاوي؛ وحين نحلق بإحساس سيدة الغناء العربي أم كلثوم في رائعتها «يا مسهرني» يجول في الخاطر سيد مكاوي بعبقريته وإبداع ألحانه.
ولد سيد مكاوي لأسرة فقيرة في منطقة السيدة زينب في القاهرة في ربيع عام 1926؛ منذ صغره اشتكى من التهابات أصابت عينيه وبسبب ضيق ذات اليد وبساطة تفكير البيئة التي نشأ فيها اضطرت والدته إلى استعمال قليل من البن في عينيه متأثرة بنصائح من حولها باللجوء للطب الشعبي؛ وكانت نتيجة ذلك مأساوية، حيث فقد على أثرها بصره..
ومن منطلق القول المأثور «بأن كل ذي عاهة جبار» لم يثنه فقدان البصر من النبوغ في مجالات جبره المولى عزَّ وجلَّ تعويضاً لمحنته.
حفظ القرآن الكريم فقد أنعم الله عليه بحافظة ثاقبة على سبيل المثال لا الحصر يسمع موشحاً أو أغنية ولو لمرة واحدة فيحفظها دون تكرار وعن ظهر قلب؛ ولكون والده عاشقاً للطرب الأصيل والغناء امتلك الكثير من الأسطوانات؛ أما والدته فساعدته في تمكنه من شغفه، حيث كانت تشتري بثمن زهيد الأسطوانات القديمة ليستمع لها وتشكل بدايات مخزونه الإبداعي.
عمل بعد ذلك منشداً في المناسبات؛ مما أدى إلى تقوية ملكته الفنية؛ وكانت الخطوة الأولى ليبلغ طموحه ويؤسس نفسه كمطرب بصوته الشجي الذي يضج إحساساً؛ وملحن يشار إليه بالبنان، حيث قدم أروع الألحان سجلها التاريخ في سفره الخالد.
بداية مشواره الفني كانت عبارة عن فرقة موسيقية صغيرة «اوركسترا» شبيهة بالتخت الشرقي إلى حد ما مع الأخوين إسماعيل ومحمود رأفت؛ أحيا من خلالها الحفلات المختصرة بداية على معارفه وأصدقائه؛ وكان اعتماده في إخراجها على مخزون ذاكرته من مجمل الإنشاد الديني والتراث الشرقي؛ وتلك أحد الأسباب الرئيسة لتشكيل تلك الأوركسترا ليتسنى له الحصول على دخل مناسب يستطيع من خلاله إعالة أسرته التي آلت مسؤولية إعالتها على عاتقه بعد وفاة والده وهو في سن صغيرة.
الألحان بالنسبة لسيد مكاوي كانت شغفه الذي يأتي بالمقام الأول ويرى من خلالها تعبيراً وسكباً لما في نفسه من مشاعر وأحاسيس مرهفة حد الإفراط وتعليقاً على ذلك قوله: «تعلمت من الألحان التعبير عن ما بداخلي؛ وأنا مدين للناس بتعلم الموسيقى؛ وأعرف ما يحبون بقدر ما أحبهم».
وهذا القول نراه ترجمة لكل لحن أبدع من خلاله سيد مكاوي عند سماعه؛ لأنه يجعل المستمع وكأنه يعيش تفاصيله ويتفاعل معه بمنتهى الإحساس، بل يحلق منتشياً لعذوبته وسحره.
ذاع صيته وبلغت شهرته أوجها عندما لحن لسيدة الغناء العربي أم كلثوم أغنية «يا مسهرني»؛ كما لحن أغنية «أوقاتي بتحلو» لتغنيها أم كلثوم لكن شاء الله أن ترحل دون أن تغنيها.
شعر وقتذاك بالحزن واضطر حينها للعزلة؛ إلا أن وردة الجزائرية طلبت منه أن يغنيها بصوته ثم غنتها هي وتعتبر من الروائع التي لحنها سيد مكاوي وقدمتها الفرقة الماسية وفق أداء منقطع النظير بقيادة المايسترو «أحمد فؤاد حسن» وثلة من عباقرة العزف وعلى رأسهم المبدع عازف الكمان «أحمد الحفناوي».
ومن أشهر أغانيه التي غنتها وردة الجزائرية «قلبي سعيد» «شعوري ناحيتك» «ياما ليالي» و«قال إيه بيسألوني».
وغنت نجاة الصغيرة من ألحانه رائعتها «تفرق كثير» كما غنت فايزة أحمد من ألحان سيد مكاوي أجمل أغنية وأكثرها عذوبة وسحراً «مش كثير على قلبي».
ويبقى سيد مكاوي حاضراً في ذاكرة كل من يتذوق الطرب الأصيل؛ يضاف إلى ذلك ولمن يعرفه عن كثب طبعه الدمث وابتسامته الدائمة وضحكته المشرقة التي لا تغيب أبداً مع القريب والغريب.