لا شك أنَّ كثيراً من تعليمنا الرسمي تجاهل تاريخ ما قبل الإسلام، ورسخ في نفوس تلاميذه أن تلك الفترة كانت عصور ظلام محض، وجاهلية معتمة. وجاء بعض الدراما الدينية ليرسخ هذه الصورة، مظهراً بشر ما قبل الإسلام كأنهم شرٌّ كلهم. امتد هذا التوصيف ليشمل كثيراً من الحضارات القديمة. أقول هذا لسبب واحد هو أن جماعات الإسلام السياسي كانت ترسخ لفرض رؤيتها على الناس بالتضليل، وليس إظهاراً للإسلام السمح.
تمدد هذا الفصل الشعوري من خصوصية الحالة إلى عمومية القياس. لم يقتصر على الجاهلية التاريخية، بل صنع جاهلية أفقية معاصرة. تعلم منها النشء الصغير النفور من المخالف لدينه. واستثمرت فيه جماعات الإسلام السياسي في سعيها إلى هدم دولة المواطنة. فوضعت الدولة والمجتمع في موقع «أهل الجاهلية» الذين يجب قيادتهم من الظلام إلى النور، ولو بالحرب.
تلك النظرة غير التاريخية، المتجمدة بالنصوص، حققت غرضين بحجر واحد؛ ضربت عصرنة المعرفة والتشريع في دولة المواطنة، وحجبت عنَّا ميزة فهم التاريخ والاستفادة منه. كلاهما مترابط لأن ذاكرتنا السياسية المعاصرة ممتلئة عن آخرها بالعصر السياسي الذي ينتمي إليه الإسلام، وهو عصر الإمبراطوريات الكبرى. لا تعرف عن سابقه سوى أنه وثنيّ، ومتخلف، وبلا قيمة. بينما الحقيقة تختلف. أوروبا أيضاً عادت في نهضتها إلى «جاهليتها الخاصة». ليس نكاية في الدين المسيحي كما يجادل البعض، وإنما بحثاً عن دليل في طريق جديد كانت على وشك الانتقال إليه. هي الأخرى عاشت قروناً تحت قيادة مركزية من روما تتحكم في قرارها السياسي. وحين أرادت بناء طموحها الخاص لم تعرف كيف تفكر بعيداً عن ثنائية الخير والشر، أو الحق والضلال. ولم يكن أمامها من طريق إلا العودة إلى حوارات أرسطو وأفكار أفلاطون وتساؤلات سقراط وكتابات شيشرون والقليل الذي وصل إليها من فلسفة مصر القديمة.
نعيش في منطقتنا - على الأقل في الجانب السياسي - في حال شبيهة. لا نعرف كيف نعقد التحالفات وندير شؤون الحرب والسلم. لا نعرف كيف ننتقل من «الولاية» إلى الدولة، ومن عناصر أمة وطوائف إلى مواطنين متساوين على اختلافهم. لا نفهم سوى أن المرء يجب أن يحالف مَن على دينه ويعادي الآخرين. نغفل عن حقيقة أن أبناء الدين الواحد قد تتنازعهم أهواء وعقائد سياسية مختلفة، تجعل بعضهم خطراً على بعض.
الأهم، وإن كان أخفى، أننا فقدنا الثقة بأنفسنا. قيل كلام كثير في هذا السياق استغلته طبعاً جماعات الإسلام السياسي لتعميم رؤيتها على الناس. لكنَّ المسألة في السياسة تتلخص في تحالفات ذات غرض؛ تحالفات من أجل السلام، أو تحالفات من أجل الحرب والتوسع. بغضّ النظر عن الدين. المسألة الآن أن تسالم من يسالمك، وأن تدرأ خطر من يعاديك، بغضِّ النظر عن دينه.
لا ينفي هذا أبداً البعد الديني في الثقافة. وهو بعد يجب أن يُستثمَر داخل المجتمعات وبين الدول في إشاعة العلاقات الطيبة وحسن الجوار والحث على التعاون. الحاصل أنه يُستخدم من جماعات الإسلام السياسي في العكس تماماً؛ في إحداث الشقاق داخل المجتمع وبين دول الجوار، وفي المكيدة والإضعاف.
وثنائية «الجاهلية - الإسلام» تجعلنا لا نرى التاريخ كما كان. حين يدفن طائر رأسه في الرمال لا يختفي الواقع، يظل مرئياً للآخرين من حوله. والواقع أن هذه المنطقة لها تركيبة تاريخية راسخة. بعض شعوبها ذاب في الإسلام، وبعضها تقلص لظروف تاريخية، وبعضها هاجر منها. وبعضها الآخر لا يزال محتفظاً بهوية مغايرة. ينبغي ألا ننظر إلى تلك الشعوب - سواء كانت طائفة إسلامية، أو لا تتحدث العربية، أو كانت ذا دين مختلف - على أنها عدو. قراءة تاريخ ما قبل الإمبراطوريات وتدريسه للنشء مهمٌّ هنا، لأنه يعلِّم السماحة، ويجعلنا أكثر قدرة على التواصل السياسي مع العالم من حولنا. فلا نظهر في النقاش العالمي على أننا مجادل من أجل الجدل، لا نعرف ما ندافع عنه، ولا نعرف ما نعارضه.
البحث في التاريخ ليس غرضه التنابز والمكايدة والعداء. الغرض الأول والأهم المعرفة، كونها منبع الخير، في الطب أو الاقتصاد أو السياسة أو علوم الفضاء. سقراط ذهب إلى حد القول إن «هناك خيراً واحداً فقط هو المعرفة، وشراً واحداً هو الجهل». فلا تدع وسوستك بالجاهلية تقودك إلى الجهل والجهالة.