: آخر تحديث

ترمب وتعريف الصراع: الاقتصاد بديل السياسة

7
5
4

كتب الزميل نديم قطيش الثلاثاء الماضي في هذه الصفحة مقالة تناول فيها السياسة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترمب تجاه الشرق الأوسط، مستنداً إلى مقابلة أجراها ستيف ويتكوف مبعوث ترمب إلى الشرق الأوسط مع الصحافي تاكر كارلسون. لم يتبنَ الزميل قطيش موقفاً، بل اكتفى غالباً بعرض السياسة الترمبية بعامة وتجاه المنطقة بخاصة. مقابلة ويتكوف ومقالة الزميل قطيش تستدعيان مناقشة بعض مما ورد فيهما، لا سيما لجهة فصلهما سياسة ترمب تجاه المنطقة عن سياساته وإجراءاته على الصعد كافة داخلياً وخارجياً.

أولاً، يصعب تحييد الإجراءات التي اتخذها ترمب خلال الخمسين يوماً من ولايته عما يحيكه للشرق الأوسط، أبرزها داخلياً تهميش القضاء، وترهيب الجامعات، ومعاملة المعارضين لسياساته، وترحيل الآلاف من المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين ومناهضة الإعلام والإعلاميين. أما خارجياً، وهنا بيت القصيد، بدا وكأنه يسعى إلى فرض إرادة القوى الكبرى على الأقل قوة، متجاهلاً أي دور للحقوق والسيادة الوطنية. نهج، يطيح أسس العلاقات الدولية بتجاهل إرادة الآخر دولاً أو شعوباً خدمة لمصالح ضيقة تتناسب مع أولويات ما يسميه «أميركا أولاً». نهج، يبرر الاستيلاء بالقوة على أراضي وحقوق دول أخرى ويجاهر بجعل كندا الولاية الـ51 والاستيلاء على غرينلاند وقناة بنما وتبرير حرب روسيا على أوكرانيا وتخريب العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين التي عمرها أكثر من ثمانين سنة.

ثانياً، تحدث الزميل قطيش عن فكر سياسي أميركي جديد في هذه الحقبة. الأصح القول إنها سياسة جديدة لا يمكن وصفها لا بالعقائدية ولا بالفكر السياسي كما نعرفه، بل هي مجموعة متناثرة من الأفكار والرؤى في إطار ثورة محافظة تطاول جوانب الحياة كافة، تتبناها نخبة من أصحاب الثروات الفاحشة واليمين المتشدد وتُترجم مواقف سياسية حسب الحاجة يصعب ألا تطاول السياسة الخارجية. ذلك سبب الخشية من كلام ويتكوف لأنه حصر رؤيته للشرق الأوسط بتفكير هذه النخبة التي تؤمن «بالاستقرار من خلال الاقتصاد والأمن، ما انسحب على الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ليعاد تعريفه وإخراجه من كونه «نزاعاً سياسياً وجودياً إلى كونه مشروعاً اقتصادياً وأمنياً جامعاً».

منذ وصوله إلى السلطة، تبنى ترمب مقاربة للسلام في الشرق الأوسط يمكن تسميتها «السلام الاقتصادي»، جوهرها تقديم حوافز اقتصادية واستثمارات ضخمة للدول والفئات المعنية مقابل قبول تسويات سياسية. تمثلت هذه المقاربة بـ«صفقة القرن»، التي وُصفت بأنها حل قائم على المصالح الاقتصادية أكثر من كونها استجابة لمطالب الشعوب. وهذا ما يدعونا للتذكير أن صفقة القرن لم تتحقق، كما لم تتمكن الاتفاقات الإبراهيمية من منع حربي غزة ولبنان سنة 2023 ولا تزال نيرانهما مشتعلة. السبب أن الإدارات الأميركية المتعاقبة وبخاصة إدارة ترمب، لم تقارب جذور الأزمة كما يدعي السيد ويتكوف، بل تتجاهل، لا، بل ترفض التسوية الشاملة وحل الدولتين. وإمعاناً في تجاهل الواقع، يعدّ ويتكوف أن «حماس» ليست حالة عصية على التغيير؛ ما يعني بصورة غير مباشرة تطويق فكرة دور السلطة الفلسطينية في غزة والضفة، في تأكيد لما يتردد عن رفض هذه الإدارة أي دور للرئيس الفلسطيني محمود عباس ولا للخطة العربية - المصرية لغزة، الداعية إلى إدارة عربية - فلسطينية، ولا إلى غيرها.

الإيجابي في مقاربة ترمب هو إصراره على معالجة دور إيران في المنطقة وللخطر الحوثي ولمسألة الأكراد، بطريقة تختلف عن التي اعتمدتها الإدارات السابقة. لكن ذلك يبقى غير كافٍ لأنه إذا لم يُعترف بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره فلن تُنزع الورقة الفلسطينية بالكامل من يد إيران وحلفائها. تعكس رؤية ترمب تبسيطاً مفرطاً لفهم واقع المنطقة وتعقيداتها؛ إذ تفترض أن الحلول الاقتصادية كفيلة بمعالجة أزمات سياسية متجذرة. لكن القضية الفلسطينية ليست مجرد أزمة معيشية وتحسين للوضع الاقتصادي وجذب الاستثمارات بديلاً عن الحقوق السياسية، بل قضية حقوق وطنية وإنسانية لا تقبل المساومة وملايين الفلسطينيين يرون في قضيتهم صراعاً سياسياً وجودياً.

لن تقتصر تداعيات سياسات ترمب على الإقليم فحسب، بل أيضاً على العلاقات الدولية بشكل عام. فاعتماد الولايات المتحدة على نهج يقوم على المصالح الاقتصادية، بدلاً من المبادئ السياسية والحقوق يضعف مكانتها أكثر مما هو ضعيف بصفتها وسيطاً محايداً في النزاعات العالمية.

دعوة الزميل قطيش «للواقعية الجديدة لما تحمله هذه المدرسة من فرص ومخاطر» ضرورة، لكنها لا تبرر قبول فرض الأمر الواقع بالقوة، أو تغيير الحدود، أو تحويل فلسطين مشروعاً عقارياً اقتصادياً بمعزل عن الحقوق السياسية، أو تفكيك استقرار سوريا ولبنان أو اعتبار أن الأمن يمكن شراؤه. فهذه ليست حلولاً، بل محاولات خطيرة لإعادة تشكيل المنطقة وفق حسابات نخبوية هوياتية قومية ضيقة مدة صلاحيتها قصيرة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد