: آخر تحديث

قلعة الكتب

6
5
5

ذات يوم أواخر القرن الماضي سمعت الوكيلة الأدبية وسيدّة الكتّاب كارمن بالسيلز تتحدث عن مشروع مدهش له صلة بالكتب وبمدينة برشلونة. واستمرت لسنوات لاحقة تتحدث عن ذلك المشروع وتستخدم نفوذها الواسع لإقناع السلطات الإقليمية بتبنّيه وتنفيذه.

كان المشروع يهدف إلى تحويل جميع الثكنات العسكرية القديمة في المدينة إلى مكتبات ومحفوظات للأدباء، وبما أن برشلونة كانت تحوَّلت في سبعينيات القرن الماضي إلى عاصمة «الطفرة» الأدبية الأميركية اللاتينية والمكان المفضّل لتلاقي الكتّاب الإسبان بزملائهم من أميركا اللاتينية، كانت كارمن تريد أن تكون المحفوظات والمكتبات الأولى مخصصة لغابرييل غارسيّا ماركيز وخوليو كورتازار وكارلوس فونتيس وغيرهم، وأن يضاف إليهم لاحقاً كثيرون من إسبانيا وأوروبا وشتى أنحاء العالم. وبذلك تصبح برشلونة، في غضون سنوات، مدينة الكتب الرائعة التي يتوافد إليها الباحثون وهواة الكتب والقراء من القارات الخمس، ينهلون من أرشيفها ويطالعون وينظمون الندوات والحلقات الدراسية حول كل أنواع الأدب المعاصر.

يبدو أن السلطات الكاتالونية لم تتجاوب يومها مع فكرة المشروع، ومع مرور الوقت راحت كارمن بالسيلز تتراجع عن فكرتها إلى أن قررت التخلّي نهائياً عن حلمها المستحيل. لكن ما لم يكن في حسبان أحد أن مشروعاً مماثلاً، أكثر تواضعاً، سيبصر النور على الطرف الآخر من المحيط، في العاصمة المكسيكية، بفضل جهود سيدة أخرى هي كونسويلو سالازاز غيرّيرو التي بذلت جهداً كبيراً لتجعل من مكسيكو مقرّاً لأجمل مكتبة في القرن الحادي والعشرين، وأطلقت عليها «قلعة الكتب».

تقوم هذه المكتبة في مصنع قديم للتبغ يعود بناؤه لأواخر القرن الثامن عشر، ويمتدّ على مساحة 40 ألف متر مربّع وسط الحي القديم في المدينة. وكان هذا المبنى أيضاً مصنعاً للأسلحة، وسجناً عسكرياً ومستشفى وثكنة، قبل أن يحوّله خوسيه فاسكوسيلوس عام 1946 إلى مقر المكتبة الوطنية التي أشرف على إدارتها حتى وفاته. بعد ذلك مرّت فترة طويلة كان المبنى خلالها مهجوراً إلى أن بدأ المهندس المعماري المعروف إبراهام زابلودوفسكي بترميمه في عام 1987.

تلك «المدينة» الجميلة والشاسعة، تضمّ حدائق ومباني تجمع بين جدرانها المكتبات الخاصة لحفنة من الكتّاب المكسيكيين، خوسيه لويس مارتينيز وأنطونيو كاسترو ليال وخايمي غارسيا تيرّيس وتشوماسيرو وكارلوس مونسيفايس وتضمّ نحو 350 ألف مجلّد. كلُّ واحدة من هذه المكتبات وضعت في عهدة مجموعة من المهندسين والمصممين والفنانين الذين أعادوا تشكيلها وترتيبها وفقاً لشخصية ومزاج أصحابها الأصليين، مع مراعاة سهولة الوصول إلى الكتب وراحة القراء. ولا مبالغة في القول إن تلك المباني، المختلفة بين بعضها، هي إبداعات هندسية تنمّ عن ذوق رفيع وتوفّر الأجواء المناسبة لتحفيز العمل الفكري الخلّاق. أقول ذلك عن معرفة ويقين لأني أمضيت عمري قارئاً وكاتباً في مكتبات المدن التي عشت فيها، وباستثناء المكتبة البريطانية القديمة عندما كانت لا تزال ضمن المتحف البريطاني قبل نقلها إلى سانت بانكراس، لا أذكر أني شعرت بمثل هذه الرغبة في الكتابة، وحتى العيش هناك، كتلك التي شعرت بها في مكتبات القلعة المكسيكية.

ليس أصدق من القول إن المكتبات تكون على شاكلة أصحابها. يكفي أن نقارن الترتيب والتوازن في عشرات آلاف المجلدات التي جمعها المؤرخ والباحث والناقد الأدبي خوسيه لويس مارتينيز، بالأجواء الشاعرية والمتنوعة عند غارسيا تيرّيس، أو الفوضى العابثة والفضول الجامح عند مدوّن الثقافة الشعبية كارلوس مونسيفايس. عند مدخل المبنى، الذي يضمّ مكتبة هذا الأخير يجد الزائر نفسه أمام رسم لماريّا فيليكس وعليه إهداء لطيف لمونسيفايس. وتولّى الرسّام فرنسيسكو توليدو فرش أرض هذا المبنى بسجّادة تعجّ بالقطط التي كان مونسيفايس يهوى اقتناءها ويعتني بتربيتها.

إلى جانب تلك المباني توجد أخرى مخصصة للصغار وللأطفال والعميان وأصحاب الاحتياجات الخاصة. كان بودي أن أمضي فترة أطول في مكتبة الأطفال لأسترجع تلك الحقبة الجميلة من العمر بين تلك اللعب المصممة على شكل شخصيات من القصص الخرافية التي ألهبت مخيلتنا في الصغر.

ولعلّ المبنى الذي يحمل طابعاً أدبياً ومميزاً أكثر من غيره هو ذلك المخصص للعميان. أهمية الموسيقى في هذا المبنى هي بنفس المستوى الذي في رواية بروس تشاتوين الرائعة The Songliness التي يصف فيها عالم السكان الأروميين في أستراليا حيث كانت الحدود الفاصلة بين مختلف الأعراق موسيقية وليست جغرافية. داخل هذه المكتبة المساحات مفصولة عن بعضها بمؤلفات صوتية وضعها مؤلفوها بالتعاون مع العميان، الذين يتنقلون بينها بتوجيه من الموسيقى إلى رفوف المكتبة أو إلى المقاعد التي يجلسون فيها للمطالعة. والمكتبة مجهزة ليس فحسب بمجموعة كبيرة من المؤلفات بطريقة «برايل»، بل أيضاً بلوحات إلكترونية وكتب مسجلة يتسنَّى لهم الاستماع إليها في قمرات صغيرة مخصصة لهذا الغرض. ولعزل هذا المبنى عن ضوضاء الشارع توجد حديقة يعبرها ممر فيه زهور وأعشاب عطرية وأشجار تسمح للوافد أن يدخل المبنى من غير الحاجة لمساعدة من يدلّه على الطريق.

لا شك في أن السيدة كونسويلو سالازار غيرّيرو، رئيسة المجلس الوطني للثقافة والفنون في المكسيك، ما كانت لتتمكن من تنفيذ هذا المشروع الثقافي المذهل من غير الدعم والموارد التي قدمتها حكومة الرئيس السابق فيليبي كالديرون، الذي انتقد كثيرون عهده بسبب الدماء التي سالت عندما قرر مواجهة تنين تجارة المخدرات التي تسببت في موجات لا نهاية لها من العنف والمعاناة. أعتقد شخصياً أنه كان شجاعاً ونزيهاً، وكان له دور كبير في توطيد دعائم الحكم الديمقراطي في أكبر دولة ناطقة باللغة الإسبانية في العالم. وفي ظنّي أنه بعد مرور السنين وبعد أن تنقشع من الذاكرة التاريخية أعمال العنف التي شهدتها المكسيك نتيجة تجارة المخدرات، ستبقى قلعة الكتب حيث هي، تستقطب المزيد من القراء إلى هذا الصرح الحضاري العصّي على التوحش والعنف.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد