: آخر تحديث

صورة من صور العام

9
8
6

سليمان جودة

نقلت وكالات الأنباء صورة لامرأة تمسك بمرآة في إحدى يديها، بينما اليد الأخرى تمشط شعرها في رفق واضح.

ولأن الصورة جرى نشرها مطلع هذا الشهر، فمن الوارد جداً أن تكون إحدى صور العام، لو أن أحداً في آخر العام قد راح يحصي الصور النادرة التي رأت النور فيه على مدى 12 شهراً كاملة.

لم تكن الصورة لواحدة من ملكات جمال العالم، ولا لنجمة من نجمات السينما، ولا كانت تنقل لنا ملامح وجه من وجوه الموضة والأزياء، ولكنها ويا للعجب كانت لسيدة تجاوزت المئة بأربع وعشرين سنة!

اسمها تشيو تشايسي، وهي صينية مولودة في عام 1901، وعندما طيرت وكالات الأنباء صورتها، وهي تمشط شعرها قالت: «إنها تعد من أكبر المعمرات في المدينة التي تعيش فيها»، بما يعني أن مدينتها تعرف بالمعمرين والمعمرات من أبنائها، وأنها مشهورة بأن أهلها يعيشون طويلاً.

ومن الواضح أن تشيو قد تسلمت الراية من المعمرة اليابانية توميكو إيتوكا التي رحلت في 29 ديسمبر الماضي، وعاشت 116 سنة، وكانت فاكهة الموز لا تنقطع عن مائدتها، فكأن هذه الفاكهة على وجه التحديد هي التي أطالت عمرها.

ولو أنك استعرضت أسماء المعمرين والمعمرات فسوف تكتشف أن كل واحد منهم أو واحدة توصي بشيء معين أو طعام محدد، ولا بد أن المتابع سوف يحار فيما يأكل وفيما لا يأكل، وسوف يجد أنه مدعو لتناول كل الأنواع والأصناف ليكون من المعمرين، وهذا بالطبع مستحيل لأن للإنسان في النهاية طاقة فيما يأكله ويشربه.

أما المعمرة تشيو فلا تنصح بطعام ولا بشراب دون آخر، ولكن كل ما تقوله إنها تتناول ثلاث وجبات، وتمشي بعد كل وجبة، وتنام في الثامنة مساء، ولا شيء أكثر من ذلك ولا أقل. وهي تقول: «إن هذا هو سبب طول عمرها»، والأهم من طول عمرها نشاطها وصحتها، بدليل أنها لا تزال تمشط شعرها بنفسها، بل وتصعد السلم دون مساعدة، وتشعل النار، وتطعم الأوز في بيتها.

أما حكاية الوجبات الثلاث فهي ليست السبب بالقطع، وإذا كانت سبباً فسوف تكون من حيث انتظامها، أي أن تشيو تأخذ كل وجبة منها في موعد محدد وثابت، فالنظام أو الانتظام في تناول الطعام أمر مهم في نظر خبراء الصحة. إن كل الناس يأكلون، ولكنهم ليسوا كلهم حريصين على تناول طعامهم حسب نظام متبع لا حيدة عنه ولا ارتباك فيه.

وأما المشي عموماً، أو بعد كل وجبة، فتلك هي المسألة، لأن القلة من الناس هي التي تعرف قيمة المشي كرياضة، فتواظب عليه ولا تنقطع عنه. ولا نزال نذكر كيف أن نجيب محفوظ كان يخرج من بيته على النيل فيمشي حتى يصل إلى ميدان التحرير حيث يتناول قهوته في مقهى علي بابا الشهير في الميدان، ومن هناك كان يقطع الشوارع ماشياً حتى يصل إلى مبنى جريدة الأهرام.

كان يفعل هذا بانتظام كل يوم إلا أن يمنعه طارئ، ولا بد أن هذه الرياضة كانت من بين أسباب طول حياته، لأنه عمر حتى بلغ الخامسة والتسعين. وقد كانت هذه الرحلة بالنسبة له رياضة وعبادة كما يقال، لأنه كان يمارس رياضته اليومية المفضلة، ولأنه كان يفكر ماشياً فكانت أفكار كثيرة تخطر على باله وهو يمشي، وقد أبدع قصصاً كثيرة من وحي هذه الرحلة اليومية التي تكلم عنها في الكثير من المناسبات. لهذا كله لا نجد أنفسنا بحاجة إلى نصائح السيدة تشيو، وإلا انطبق علينا المثل الذي يتحدث عن أن «الشيخ البعيد سره باتع»، فأمامنا حياة أديب نوبل نأخذ منها ما نحب، وقد كانت حياة غنية بكل معاني الكلمة.

مما يروى عن مدى انتظامه في حياته، أنه كان إذا جلس مع أصدقاء وعرضوا عليه أن يأخذ قهوة مثلاً، فإنه ينظر إلى ساعته، ويقول: «إنه سيأخذها بعد ربع أو نصف ساعة أو شيء من هذا القبيل. والمعنى أن نظاماً يسير عليه في حياته، وأنه نظام حديدي لا يتغير، وأن الحياة المنتجة لا تقوم إلا على نظام».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد