خالد البري
فوجئتُ مؤخراً بمشاهدة فيديو يعود تاريخه إلى يونيو (حزيران) 2021 يدعو فيه يحيى السنوار الفلسطينيين كافة إلى مواجهةٍ مع إسرائيل يكون هدفها دولة على حدود 67 وعاصمتها القدس، مع حق العودة للاجئين.
ربَّما صارت الشروط التي وضعها صعبة، لكن يبقى أنه يعترف في تصريحه بأن غرضه النهائي حل الدولتين. وهو غرض يتلاقى في المبدأ مع ما تسعى إليه دول الاعتدال في المنطقة، وإن اختلفت الوسائل.
ليس مبعث تعجبي الوحيد من الفيديو أن هذا يحيى السنوار، الرجل المسؤول أمام إسرائيل عن عملية السابع من أكتوبر التي استهدفت الإسرائيليين، والمسؤول أمام شعبه عن دفعه إلى أخدود...
مبعث تعجبي تساؤل بسيط: إن كان يحيى السنوار نفسه، المطلوب حالياً على رأس القائمة الإسرائيلية، يتحدث عن حل الدولتين، فمَن الذي تبنَّى في مظاهرات العالم شعار «من النهر إلى البحر»، فأوحى إلى الرأي العام العالمي بأن الفلسطينيين يرفضون ما دون إلقاء إسرائيل في البحر بديلاً؟
وللإجابة، أشك في طرفين أكثر من غيرهما، وأستبعد طرفاً لطالما وضعتُه هدفاً لانتقاداتي.
المشتبه الأول هو اللوبي الإيراني، بوصفه المستفيد الأساسي من إطفاء أي جذوة أمل في الوصول إلى حلٍّ تفاوضي. وهو لا يُخفي هذا. تحدث المرشد الأعلى مؤخراً عن أن المنطقة كانت في حاجة إلى 7 أكتوبر كي توقِف محاولات «التطبيع». يقصد مساعي السلام بين العرب وإسرائيل. فهو يدرك أنها تُغير قواعد اللعبة جذرياً، أمنياً واقتصادياً ومن حيث توازنات القوى. وتسهم في عزلة أكبر لإيران وأدواتها.
من مصلحة إيران إشاعة «استحالة» الحل، وإلا تراجعت قيمة السلعة التي تغزو بها الأسواق المجاورة بيد، وتفاوض بها الولايات المتحدة باليد الأخرى. لاحقاً، تحدثت قيادات في «حماس» عن ارتباط الهدوء على الجبهات الإقليمية بالتهدئة في غزة. وفي التصريح رسالة واضحة، مُكَمِّلة، بأن أوراق الحل في يد طهران. ثم انطلق تصريح مكمِّل ثالث، من الجهة الإيرانية، بأن الخلاف مع أميركا في الشرق الأوسط خلاف حول الأنصبة والحصص.
الجمهورية المؤدلجة لا ترى سوى هدفها التوسعي، وتعد الأرواح ثمناً طبيعياً لتحقيقه، وترهن السلم والأمن به. وقد وجدت في قيادات حمساوية مَن يروي شجرة أحلامها بدماء الفلسطينيين.
المشبوه الثاني هو اليسار الراديكالي. لطالما استخدمتْ إيران هذه الفئة من المؤدلجين العالمانيين، ومن المتشيعين سياسياً، وسيلةً لنقل رسالتها خارج دوائرها التقليدية. نجحت الخطة في لبنان، والعراق، ووجدت مَن يزين صورتها في أماكن أخرى. هؤلاء الشيوعيون السابقون خليط من راديكالية لفظية تشبه الجهاديين، وانتهازية تشبه الإخوان. يشجعهم على مزيد من الراديكالية الخطابية أنهم لا ينخرطون في اشتباكات على الأرض، ولا يدفعون ثمناً.
بهذين الطرفين المشبوهين، تحولت غزة إلى أوراق كوتشينة توزعت على عدد أكبر من اللاعبين، كثير منهم يرى في امتداد الحرب، والحالة الفوضوية المصاحبة لها، فائدة أكبر من توقفها وإنقاذ دماء الفلسطينيين.
يضعهم هذا في موقع مختلف عن جماعة الإخوان المسلمين، رغم ما يبدو في الظاهر من تلاقٍ في الأهداف. الإخوان المسلمون ليس غرضهم في الوقت الحالي ترويج استحالة الحل السلمي، بل هدفهم الحفاظ على جماعة «حماس»، وضمان موطئ قدم لها في أي ترتيبات مستقبلية. لجانهم الإلكترونية هدأت هدوءاً ملحوظاً على السوشيال، وهناك إدراك يائس بين صفوفهم أن هذه المرة لا تشبه أي مواجهة سابقة. يركز الإخوان أكثر على حملات المقاطعة، وعلى استغلال الحرب في الانتقاص من جهود النظم التي يعارضونها، وعلى استمرار الحركة الطلابية، وعلى «سكريبت» انتصار «حماس» تمهيداً لاستمرارها على ركائز أسطورة جديدة.
باختصار، فإن إطالة أمد الحرب ليس غرض «أم حماس»، بل غرض مدّعية أمومتها.
ألمَّت بقيادات «حماس» عصر السابع من أكتوبر حالة مريبة من الارتباك لا تناسب جماعة نفَّذت للتوِّ مغامرةً وجوديةً. حالة الارتباك التي وصلت إلى حد التنصل من بعض ما جرى، ومحاولة إلقاء مسؤوليته على مدنيين متسللين، تعني أنهم فوجئوا بما حدث، وأن المفاجأة أفقدتهم حتى القدرة الطبيعية على اختبار السيناريو قبل طرحه. محاولة التنصل التي قدموها لا تُعقل. المواطن العادي لا يذهب من تلقاء نفسه إلى منطقة تبادل إطلاق نار، لا يملك فكرة عن نطاقه وامتداداته. هذا تحرك مقصود متعمَّد، هيَّأت له جهة نظامية. وهو تصرف يرجح وجود طرف من مصلحته قطع خط الرجعة، وخيوط الحل، وخلق مأساة كابوسية لا تستيقظ المنطقة منها إلا إذا حصل على ما يكفيه.